مناظرة الأصمعي وأبي عبيدة: بين دقّة اللغة وسعة الرواية… بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

تُعَدّ مناظرة الأصمعي وأبي عبيدة من أشهر المناظرات اللغوية في التراث العربي، ومن العلامات الفارقة في تاريخ النقد اللغوي والرواية الشعرية في العصر العباسي. فقد جمع الرجلان بين عمق المعرفة، وسعة الاطلاع، وحرارة الجدل العلمي، فكانت مناظرتهما عنوانًا لوَعيٍ لغويّ يتجاوز حدود التنافس الشخصي ليُسهم في تثبيت مناهج الدرس اللغوي، وتحديد معايير الأخذ عن الرواة، وتقييم الشعر الجاهلي.
أولًا: السياق التاريخي والمنهجي للمناظرة
نشأ الأصمعي (ت 216هـ) وأبو عبيدة (ت 210هـ) في عصر ازدهار فيه العلم واللغة، وتنامت فيه الحاجة إلى تقعيد العربية وحفظ تراثها. وكان كلٌّ منهما ينتمي – على الرغم من اشتراكهما في الحاضنة البصرية – إلى مسلكٍ علمي مختلف:
1. الأصمعي:
عالم لغوي نحوي متمسّك بالسماع من الأعراب.
عُرف بدقّة الملاحظة وصرامة التحقيق اللغوي.
طريقتُه تعتمد على القياس على الفصيح والمسموع.
2. أبو عبيدة:
راوية واسع الثقافة، غزير المعرفة بالأنساب، وأيام العرب، والغريب، والأشعار القديمة.
يمتاز بسعة الرواية، وكثرة الشواهد، وتنوّع مصادره.
يميل إلى الجمع والاستشهاد ولو من روايات ضعيفة أو أشعار موضوعة، ما لم يتبين له فسادها.
هذا التباين أنتج خصومة علمية طبيعية، غذّاها اختلاف المنهج وتباين الشخصية: الأصمعي متشدّد في الضبط، وأبو عبيدة كثير الرواية واسع المعرفة.
ثانيًا: محاور المناظرة
1. اللغة والصواب والاحتجاج
كان الأصمعي يرى أنّ الاستشهاد يجب أن يكون بالأعراب الأقحاح الذين لم تُفسد لغتهم الحضارةُ ولا مخالطةُ الشعوب الأعجمية.
بينما كان أبو عبيدة يرى أن اللغة أوسع من حصرها في حيّ أو قبيلة، وأن الرواية نفسها بابٌ لحفظ اللسان وتنوّع استعماله.
2. الشعر الجاهلي وصحّة الرواية
هنا بلغ الخلاف ذروته:
الأصمعي: يشكّ في كثير من الأشعار إذا لم تتوافر شروط الضبط والسماع.
أبو عبيدة: يعتمد الرواية الشفوية والكتب القديمة، ويحتجّ حتى ببعض القصائد المنحولة إذا وافقت سياق العربية.
ولهذا اتهم الأصمعي أبا عبيدة بأنه “يروي الموضوع”، واتهم أبو عبيدة الأصمعي بأنه “يضيق بما لا يعرف”، وأنه يردّ من الشعر ما يجهله.
3. الاختلاف حول تفسير الألفاظ
كان الأصمعي من أهل الضبط الصوتي، فإذا سمع اللفظة من فصيح توثّق في نقلها وشكلها.
أما أبو عبيدة فكان إمامًا في الغريب، فيأتي بمعانٍ من كتب الأوائل ولغات القبائل حتى ينقض ما قاله الأصمعي أو يعترض عليه.
ثالثًا: نماذج من المناظرة
1. مسألة “الفَرَش” في كلام العرب
ذُكر أنّ الأصمعي فسّر “الفَرَش” تفسيرًا ضيّقًا موافقًا للسماع، فعقّب أبو عبيدة بذكر عشرات الاستعمالات من أشعار العرب ورسائلهم، وأثبت أنّ اللفظة أوسع وأغنى دلالة ممّا ظنّه الأصمعي.
2. قضية الشعر الموضوع
حين لامه الأصمعي على رواية أشعارٍ موضوعة، أجابه أبو عبيدة:
“أرويها كما تُروى، وما عليّ من وضع الواضع؛ فإنما البيان بيان العرب.”
وهو موقف يعكس منهجًا تجميعيًا يغلب فيه حفظ التراث على غربلته الصارمة.
رابعًا: القيمة العلمية للمناظرة
1. ترسيخ معايير التوثيق
أبرزت المناظرة الفرق بين منهج التنقية ومنهج الجمع، وهما الركنان الأساسيان في التراث العربي.
فالأصمعي يمثّل دقّة الضبط، وأبو عبيدة يمثّل سَعة المعرفة.
2. حماية الشعر الجاهلي من الضياع
أسهم أبو عبيدة بروايته الواسعة في حفظ النصوص القديمة، ولو كان بعضها موضع خلاف.
وكذلك أسهم الأصمعي في تصفية ما شاع من الأخطاء والمواضع المريبة.
3. المناظرة بوصفها مدرسة نقدية
تحوّلت المناظرة إلى مثالٍ في أدب الحوار العلمي:
الاستدلال بالشواهد
الاعتراض
نقض الحجة بالحجة
احترام المختلف، رغم حدّة النقاش
خامسًا: أثر المناظرة على الدرس اللغوي
1. تأسيس مدارس لغوية:
مدرسة السماع (الأصمعي)
مدرسة الرواية الواسعة (أبو عبيدة)
2. تشجيع التأليف في الغريب واللغة:
مثل “غريب الحديث” و”مجازه” و”نوادره”.
3. توثيق طرق أخذ العلم:
فاللغويون اللاحقون صاروا يميزون بين مناهج الرواة تبعًا لهذه المناظرات.
سادسًا: خلاصة:
لم تكن مناظرة الأصمعي وأبي عبيدة مجرّد خصومة بين عالمين كبيرين، بل كانت تجسيدًا لصراعٍ معرفي خلاق بين دقّة اللغوي ووفرة الراوية.
وقد أسهم هذا الجدل في حفظ التراث، وبناء معايير النقد، وتحديد مفهوم الفصاحة، وفي الوقت ذاته كشف عن ثراء اللغة العربية وتعدّد مصادرها.
وهكذا بقيت المناظرة مثالًا على كيف يُنتج الخلافُ العلمي معرفةً أعمق، ويحوّل التنافس إلى بناء، والصراع إلى مدرسة.









