كتاب وشعراء

سجلات الكائن الذي مشى خارج ظله … زكريا شيخ أحمد / سوريا

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

لم يكن الصبحُ قد وُلد بعد،
لكنّ الضوء كان يختبرُ أصابعي
كما يختبرُ شاعرٌ جديدٌ
قافيةً خجولةً هربت من بيتها الأول.

كنتُ في مكانٍ لا يصدر عنه صوت،
مكانٍ يتنفسُ بنبض قديمٍ
يتساقط من سقفٍ مجهول كأنه صوت قلبٍ
يبحث عمّن صدّقه منذ آلاف السنين.

كنتُ أتقدم
و ورائي ظلٌّ لا يعترف بي،
ظلٌّ يراقبني كما يراقبُ الموتُ رجلاً
يعاندُ في الاستيقاظ .

سمعتُ الهواء يهمس:
تمهّل…
هنا كلّ خطوة
تضعكَ في زمنٍ غير الذي خرجتَ منه.

رفعتُ رأسي… فأبصرتُ سماءً تشبه
عصباً مفتوحاً يمتد من ذاكرة الكون
إلى جسدٍ يكدّسُ ماضيه فوق كتفيه،
كما يكدّسُ الحطّابُ
خشباً يعرف أنه سيحترق.

كانت الأشياء تتبدل دون إرادة
الحجر يتحوّل إلى فم ،الفمُ إلى نافذة،
النافذة إلى امرأة تتدلّى من ضوءٍ يُغنّي بلغاتٍ
لم يخلق لها أحدٌ شفاهاً مناسبة.

اقتربتُ منها… فأمسكتْ قلبي بيدٍ شفافة
و قالت:
لِمَ كل هذا الحنين إلى ما لم يحدث؟
القلوبُ التي ترتجف مبكراً تفقدُ حقّها في النوم.

تراجعتُ قليلاً… فانكسرتِ الأرضُ إلى جزرٍ صغيرةٍ
تطفو على ماءٍ لم يعترف بعدُ أنه ماء.

من بين الجزر خرج شيخٌ يمشي على ضوئه،
ليس له جسد و إنما هيئةٌ مصنوعة
من كلماتٍ نسي البشرُ أن يُتمّوها.

قال لي و هو يشير إلى الريح:
ما تبحث عنه ليس أمامك،
إنه يمرّ الآن خلف كتفك اليمنى.
مدَّ يدك… امسك الفراغ…
ستجده أصدقَ من معظم الوجوه.

مددتُ يدي فأمسكتُ شيئاً
له حرارةُ ماضٍ لم أعشه
و له رائحة صرخةٍ
كُتبتْ على جدار روحٍ لا يزال يتهدم.

حين نظرتُ إليه…رأيتُ طفلاً
يخرج من غيمةٍ كانت تتعلم أن تبكي.
قال لي:
أنت تأخرتَ كثيراً ، لقد أضعتُ
عمراً كاملاً كنتُ قد خبأتُه لك.

سألته:
أين وجدته؟
قال:
تحت الحصى الذي داسته أقدامُ الجنود
حين مرّوا قبل ألف عام.
لقد نسيتَ هذا العمر هناك…
نسيتَه ليلةَ ولدتَ و لم تُصدّق أنّ الزمن
يمكن أن يبدأ بك.

كنتُ أستمع، لكن الهواء كان يتكهرب حولي،
كأنّ صوتاً خفياً يكتبُ على عظامي
ما يجب أن أتذكره… حين أعود إلى جسدي.

فجأةً
انشقّت الأرضُ عن نهرٍ يصعد
لا ينزل،
يصعدُ نحو السماء مثل جسد شهيدٍ
رفض أن ينام في التراب.

و من بين موجاته خرجت امرأة
تمسكُ بكتابٍ أوراقه من بخار،
و قالت دون أن تنظر إليّ:
هذا كتابك.
كل ما ظننته صدفة كُتِبَ هنا قبل أن تتنفس.
حتى أخطاؤك كانت مدروسةً بعناية
كي تصل إلى هذه اللحظة.

أخذتُ الكتاب فتحوّل بين يديّ إلى ضلعٍ من نار
إلى قلبٍ آخر لا يعرف اسمي ،
لكنه يعرفُ لماذا أتألم.

في تلك اللحظة فقط تذكرتُ أنني كنتُ
أبحث عن ظلي.

رفعتُ رأسي فوجدته واقفاً بعيداً،
ينظر إليّ كما ينظر المسافر إلى وطنٍ
يعرف أنه لن يعود إليه.

قال لي الظلّ:
جئتُ لأخبرك أنك لم تعد بحاجةٍ إليّ.
أنت الآن الضوءُ نفسه
و الضوءُ لا يتبع أحداً.

ثم تلاشى.
تلاشى كما تذوبُ الثلوج
حين تكتشف أنها كانت تحفظ ذاكرة المطر
لا أكثر.

و بقيتُ وحدي
في ذلك البياض الهائل،
أحسّ أنني أمشي في جسدي
للمرة الأولى
و أنّ الطريق لا تبتدئ أمامي و لا خلفي و إنما تتسعُ داخلي كما يتسعُ الحلم
لمن تجرّأ على لمسِه.

و حين رفعتُ يدي للسماء كي أشكر الهواء،
تساقطت فوقي أجنحةٌ لا أعرف أصحابها،
فقلتُ لنفسي:
ربما هذه هي المعرفة…
أن تفتح جسدك و تدعَ الكون يمرّ
و لا تخاف
أن يترك فيك شيئاً لن يزول.

زكريا شيخ أحمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock