التعب…..بقلم محب خيري الجمال

التعب
عزيزتي ضوء،
أريد أن أخبرك شيئا عن التعب،
ليس التعب الذي يذهب بعد نومٍ عميق،
ولا الذي يزول بعد كوب ماء أو نسمة هواء،
بل التعب الذي يلتصق بالروح،
ويستعمر كل جزء منك دون إذن،
يجعلك تمشين في الغرفة كجسد ثقيل بلا روح،
تنهضين صباحا لتجدين أنك لم تنمني حقا،
وأن كل خطوة تخطينها تجرّ صدى سقوطك القديم.
عزيزتي ضوء،
التعب، هو أن ينهار قلبك بصمت،
أن تصرخ حروفك في الفراغ،
والفراغ يرد بكتمه،
أن تجدي نفسك تنهارين في الداخل بينما العالم يمر بجانبك كأنه لا يعرفك،
أن تصبح وحدتك ثقيلة كجدار،
ثقيلة بما يكفي لأن يلمس الجميع ولا يشعر أحد.
كأنك تستيقظين في جسدٍ لم يعد يعرف اسمك،
تجرّين خطواتك كما لو أنها خيطٌ مبتلّ يجرّك،
تتحركين في البيت بظلّ أكبر منك،
ظلّ يعرف كم مرة انطفأت دون أن يلحظ أحد،
كم مرة غسلت وجهك بصمتٍ ثقيل،
وغادرت المرآة بلا أن تري نفسك فيها.
التعب يجلس على كتفيك
مثل طائرٍ فقد صوته،
يرهقك صمته أكثر مما يرهقك وزنه،
يمدّ جناحه فوق يومك
ويتركك تتعثرين ببطءٍ لا يليق بساعة مستعجلة،
أحيانًا تشعرين كأن روحك تتفتّت إلى حبيبات رمل
تسقط على الأرض الباردة،
ثم يعود التعب ليجمعها،
يضغطها في راحة يده،
ويعيدك إلى جسدٍ لم يعد يعرف دفء الضوء.
لا شيء يحدث،
ومع ذلك كلّ شيء يثقل:
الكوب الفارغ،
النافذة المشرعة على ضوءٍ باهت،
الكرسي الذي يعرف شكل جسدك أكثر مما تعرفينه،
حتى صوت المطر يصبح صفعة على صدرك،
ورائحة الغرفة رائحة قديمة تخنقك
كأن كل نفس يحملِك خطوة أقرب إلى الخواء.
تحاولين أن تنتشلي نفسك من هذا العطب الخفيف،
لكن التعب يسبقك،
يدخل إلى غرفتك أولاً،
يفتح الدرج،
ويعيد ترتيب صدرك كما يشاء،
يضع الخوف في الأعلى
ويخبئ الأمل في الخلف
كأنه شيء غير مهم،
كأن قلبك صندوق قديم
تحتويه أقفال لم تُفتَح منذ زمن،
والتعب مفتاحه الوحيد.
تمشين، وتشعرين أن الهواء نفسه يتعب،
أن الشارع يتثاءب،
أن العالم يتهيأ لليوم التالي دون رغبة،
كأنه يؤدي عملاً لا يحبّه،
وكل خطوة تصدر عنك تصطدم بصوت كسر غير مرئي،
مثل كسر شفاف في الزجاج،
يتوسع مع كل نبضة،
لكنه لا يصرخ،
ولا تستطيعين أن تريه.
التعب ليس وجعًا،
بل عادةٌ جديدة
تلتصق بك مثل قميص رطب،
ترافقك إلى الباب،
وتعود معك حين تعودين،
ولا تسأل يومًا
لماذا لم تعودي تضحكين كما كنتِ،
ولا لماذا صارت روحك تبحث عن مكانٍ أخفّ،
ولو لثانية واحدة.
والقصيدة… هناك، ضوء، في زاوية ما من هذا المشهد المرهق،
امرأةٌ ما تكتبك كما لو أنها تخلّص نفسها،
ترسم على الورق ملامح لا تملكينها،
وتنفخ في السطور نفسًا أعمق مما تحتمله.
امرأة ما، ضوء،
لا تعرفين وجهها،
لكن تعرفين خطواتها في الورقة:
تأتي خفيفة،
تسندك قليلًا،
ثم تتركك تمشين وحدك
في دهليز الكلمات.
قصيدة/امرأة
تروح وتجيء،
تغسل التعب عن جسدك
بطريقة لا يجرؤ فيها الماء،
تضع يدها على قلبك
كما لو أنها ترتّب نبضًا تائهًا،
ثم تختفي،
كأنها كانت مجرد إشاعة دفء
مرت في الهواء،
وتركتك تصلحين روحك ببطء
وتعودين إلى يومك
بقدرٍ بسيط من القدرة على الاحتمال.
أحيانًا، تتخذ القصيدة شكل ندبة على جدار صدرك،
تفتح فجوة صغيرة تمتص صمت الغرفة،
تصرخ بصوتك المفقود،
تترك في داخلك أثرًا كخيط حريق يلتف حول العظم،
وكل حرف منها يبدو كما لو أنه ولد من دموعٍ لم تُسمَع،
من دمٍ لم يصفِ بعد،
من صمتٍ أرهقك حتى قبل أن تفكري فيه.
وفي كل مرة تحاولين أن تحتضنيها،
تتلوى بعيدًا عن يدك،
تغيب في فراغ آخر،
وتتركك مع التعب الذي أصبح وجها،
صامتا،
قاسيا،
أكثر صلابة من كل ما تعرفينه عن العالم.









