المشهد الأخير لخمسة قرون من العزّ

في عام 1236م، بعد خمسة قرون وعقدين من الزمان، كانت #قرطبة – جوهرة الأندلس وقلبه النابض – لا تزال تتنفس هواء الإسلام، لكن رياح التشتت والضعف تهبّ على أسوارها بقوة.
في ليلة شتاء باردة من أوائل ذلك العام، انطلقت سرية من فرسان قشتالة من مدينة أندوجر نحو الربض الشرقي. كان جواسيس داخل المدينة قد دلوا العدو على ثغرة خفية في السور. تسللوا كالظلال، قتلوا الحراس، فتحوا الأبواب، واندفعوا إلى الداخل. ارتفع صوت السيوف والصراخ، ففرّ الناس مذعورين نحو قلب المدينة تاركين بيوتهم.
بلغ الخبر فرناندو الثالث ملك #قشتالة، فسار بجيشه الكبير، وصل أسوار قرطبة في السابع من فبراير، وأطبق الحصار من كل جانب.
استغاث أهل قرطبة بابن هود أمير مرسية، فخرج لنجدتهم، لكنه توقف قرب إستجة عالقاً في الطين والجوع والأمطار. ثم انتشرت بين مرتزقته شائعة أن جيش القشتاليين لا يُقاوَم، وفي الوقت نفسه جاءته استغاثة من بلنسية، فعاد أدراجه وترك قرطبة وحيدة.
داخل الأسوار، قاتل القرطبيون بضراوة؛ الرجال والنساء والشيوخ يذودون عن بيوتهم وعن مسجدهم العظيم. لكن لم تكن هناك قيادة ولا خطة ولا مؤن. شدّد فرناندو الحصار، قطع الطرق، أحرق الحقول، فصار الخبز أغلى من الذهب.
خرج وفد من الأعيان يطلب الأمان ثم تراجع، راجين أن ينهار الحصار. لكن فرناندو عقد حلفاً سرياً مع محمد بن الأحمر، فقطع أي أمل في نجدة. عاد الجوع يعضّ بأنياب حديد، فعاد الوفد مرة ثانية وأصواتهم ترجف. تم الاتفاق: تُفتح الأبواب، ويخرج المسلمون بأنفسهم وما خفّ من متاعهم، وتبقى أرواحهم.
في التاسع والعشرين من يونيو سنة 1236م، دخل فرناندو الثالث قرطبة فاتحاً. سار جيشه في شوارعها الصامتة حتى وصل إلى الجامع الأموي العظيم. دخل الملك ومعه الأسا.قفة، فرفعوا الص.ليب على المئذنة التي صدح منها الأذان خمسة قرون، ورنّت الأجراس لأول مرة في ذلك المكان الذي كان قلب الإسلام في الغرب.
جلس فرناندو في قصر الخلافة، نُصب حاكم قشتالي، وبدأ النصا.رى يقدمون من الشمال ليسكنوا البيوت التي تُركت خلفها.
وأغلقت أبواب قرطبة الإسلامية إلى الأبد، بعد أن فتحها طارق بن زياد قبل خمسمائة وخمسة وعشرين عاماً. بقي المسجد الكبير شاهداً صامتاً يروي للأجيال قصة عزٍّ طويل، ثم سقوطٍ مرير.









