المشهد الاخير طومان باي: مات واقفاً فصار خالداً»

في الأيام الأخيرة من دولة المماليك البحرية، لم يكن طومان باي السلطان الأخير يقاتل من أجل كرسي السلطة أو عرش شخصي. لو أراد ذلك لقبل عرض السلطان العثماني سليم الأول الذي أرسل إليه رسالة يدعوه فيها ليبقى حاكماً على مصر تحت الراية العثمانية. تردد طومان باي لحظات، خشية على دماء الجراكسة وحباً لمصر التي أحبها أكثر من أي بلد آخر، لكنه تذكر نصيحة الأمير علان الدودار الكبير: «لا عهد لهؤلاء الهمج ولا ميثاق»، فأعدم رسل سليم وبدأ يُعدّ الجيش للحرب المصيرية.
بدأ الغزو العثماني، وكاد النصر في البداية أن يكون حليف المماليك. بلغ الأمر أن سليم الأول وجنوده رأوا بوادر الهزيمة، فتعاتبوا فيما بينهم ولعنوا خاير بك الذي وصف لهم غزو مصر بأنها «نزهة».
لكن الخيانة كانت الكفة التي رجحت الميزان. في معركة الخانقاه، خان الأمير جان بردي الغزالي جيشه وأخبر #العثمانيين بمواقع الجيش المملوكي ومدفعيته. ورغم تفوق العثمانيين عدداً وتقسيمهم قواتهم إلى ثلاث فرق ليطبقوا على المماليك من كل جانب، انقض طومان باي بفرسانه على قلب الجيش العثماني، وصل إلى سنجق السلطان نفسه، قتل حراسه، وأسر يونس باشا (ظنه سليماً في البداية) فقطع رأسه. بكى سليم على وزيره وقال: «لا قيمة لمصر بعدك يا يونس».
توالت الخيانات بعد ذلك، واستيقظت أحقاد قديمة في صدور بعض الأعراب وبعض أمراء المماليك، فكانت الهزيمة الكبرى في معركة الريدانية. دخل العثمانيون القاهرة يوم الجمعة ٢٩ ذي الحجة سنة ٩٢٢ هـ (يناير ١٥١٧م).
رفض طومان باي تسليم السلاح أو الاستسلام. جمع نحو سبعة آلاف فارس وخاض معارك شوارع عنيفة في القاهرة من الصليبة إلى بولاق إلى الناصرية، فقطع المماليك رؤوس الإنكشارية بالعشرات. لكن أعداد العثمانيين ونيران مدافعهم أجبرته على الانسحاب إلى الضفة الغربية عند الجيزة بعد تحصن مؤقت عند جامع ابن طولون. تُركت القاهرة فريسة للنهب ، وعندما بلغ طومان باي خبر ما يحدث للمدنيين من قتل ، بكى بكاءً مراً وحمّل نفسه مسؤولية جزء من الكارثة.
لكن الأمل عاد بانضمام سبعة آلاف مقاتل من العربان إليه. دارت معركة كبرى عند أطفيح بعد أن عبر العثمانيون النيل، فبرز شادي بك واستولى على جميع مراكبهم وحاصر القوات العثمانية حتى أبادها تماماً. ثم جاءت معركة الجيزة فهُزم العثمانيون هزيمة منكرة أخرى.
انتهى الأمر بالخيانة الأخيرة في وردان، حيث سلّمه أحد الأعراب إلى العثمانيين. أُسر طومان باي وقُيد بالحديد وسيق إلى سليم الأول. نظر سليم إليه طويلاً وفي عينيه إعجاب واضح بصمود هذا الفارس الذي قاوم أكثر مما توقع أحد، ثم أمر بإعدامه.
في ١٥ رجب ٩٢٣ هـ (أبريل ١٥١٧م) أُعدم السلطان الأشرف طومان باي على باب زويلة، ليصبح آخر سلاطين المماليك البحرية (الجراكسة)، مهزوماً بالخيانة لا بالسيف، تاركاً وراءه درساً خالداً في الشجاعة والوفاء والصمود.









