ثلاثة وثلاثون يوماً من النار: ملحمة القاهرة سنة 1800 ثورة القاهرة الثانية: نار بولاق التي لم تنطفئ

في صباح يوم 20 مارس سنة 1800 اهتزت القاهرة بهزة لم تعرفها من قبل. لم يكن صوت الأذان هو الذي أيقظ الناس هذه المرة، بل صوت البارود والسيوف التي تُشهر في وجه الفرنسيين.
لم تنطلق الثورة هذه المرة من الأزهر كما في الثورة الأولى، بل انفجرت من قلب حي بولاق الشعبي العتيق على ضفاف النيل، حيث يعيش التجار والحرفيون وأصحاب الوكالات، أناس يعرفون قيمة الحرية أكثر من الكلام عنها.
يقول المؤرخ عبد الرحمن #الجبرتي ببلاغته المعهودة:
«أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة».
نعم، قامت على ساق واحدة.
وعلى رأس هؤلاء الثائرين وقف رجل لا يُنسى اسمه أبدًا:
**الحاج مصطفى البشتيلي**، المنحدر أصلًا من قرية بشتيل في الجيزة، لكنه صار ابن بولاق بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كان قد ذاق مرارة السجن قبل شهور قليلة، حين وشى به عملاء الفرنسيين أنه يخبئ في وكالته قدورًا مملوءة بالبارود. فتّش الفرنسيون الوكالة فعلًا، فوجدوا القدور كما قيل لهم. لم يكن الحاج مصطفى يجمع البارود لعرس أو احتفال… كان يعدّ العدة لهذا اليوم بالذات.
تحزم الحاج مصطفى ومعه أمثاله من أبناء الحي، هيّجوا العامة، صفّوا الرجال، رمّحوا وسيّفوا. أول ما فعلوه أن توجهوا مباشرة إلى الوطاق الفرنسي على ساحل النيل، حيث ترك الفرنسيون حراسًا قليلين. لم يبقَ منهم أحد: قُتل من قُتل، ونُهبت الخيام والمتاع. ثم عادوا إلى الحي ففتحوا مخازن الغلال الفرنسية، أخذوا ما شاؤوا، وبنوا الكرانك والمتاريس حول بولاق حتى صارت كقلعة حصينة لا تُؤخذ.
ثم سار الجميع – سيوفًا وبنادق ورماحًا وعصيًّا – نحو قلعة قنطرة الليمون. ردت الحامية الفرنسية بنيران المدافع، فسقط في ساعات قليلة نحو ثلاثمائة شهيد، لكن النار التي أشعلتها بولاق لم تنطفئ، بل امتدت كالنار في الهشيم إلى باقي أحياء القاهرة.
في المدينة، عاد السيد عمر مكرم نقيب الأشراف من منفاه في الشام، ووقف معه السيد أحمد المحروقي كبير التجار، والشيخ الجوهري وغيرهم. لكن الرجل الذي كان يقاتل في الصفوف الأولى، الذي يعرف كل زقاق وكل درب في بولاق، كان الحاج مصطفى البشتيلي.
وفي تلك الأيام فعل المصريون ما يصعب تصديقه. يروي المسيو مارتان، أحد مهندسي الحملة الفرنسية، بدهشة واضحة:
«صنعوا البارود بأنفسهم، وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصناع، بل صنعوا المدافع! ليس من رأى كمن سمع».
ويكتب كليبر نفسه في يومياته مصعوقًا:
«استخرج الأعداء مدافع مطمورة في الأرض، وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصب المدافع… لم أكن أتصور القاهرة في هذه الدرجة من الخطورة».
استمرت الثورة ثلاثة وثلاثين يومًا كاملة، قاتل فيها أهل القاهرة بكل ما أوتوا من قوة وإيمان وعناد.
ثم جاء يوم 18 إبريل 1800، يوم الهجوم الفرنسي الكاسح من كل الجهات.
وكما بدأت النار في بولاق، عادت لتخمد في بولاق.
هجم الفرنسيون من ناحية النيل ومن بوابة أبي العلا. قاتل أهل بولاق حتى آخر رجل، رموا بأنفسهم في النيران، لكن العدد والسلاح والتنظيم غلبهم. احترقت البيوت والقصور المطلة على النيل، وتكدست الجثث في الأزقة، ونُهبت الوكالات والدكاكين والمنازل حتى لم يبقَ للناجين ما يسترون به عوراتهم.
ويقول الجبرتي بقلب مكسور:
«وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور… وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم».
هرب من استطاع الهرب، ورحل السيد عمر مكرم والسيد أحمد المحروقي مع العثمانيين والمماليك.
أما الحاج مصطفى البشتيلي، بطل بولاق، فقبض عليه الفرنسيون، ثم أرغموا صبيانه وأتباعه – تحت تهديد السيف – أن يضربوه بالعصي حتى فارق الحياة.
هكذا انتهت ثورة القاهرة الثانية جسديًا، لكنها لم تمت روحًا.
بقيت في ذاكرة كل من يمر ببولاق، وكل من يسمع اسم الحاج مصطفى البشتيلي، تذكيرًا خالدًا أن شعبًا إذا قام على ساق واحدة، قد تهتز له جيوش الأرض كلها.









