غضب الشيخ الشرقاوي وإغلاق الأزهر ثورة القاهرة الكبرى: يوليو ١٧٩٥

في أواخر القرن الثامن عشر، كانت مصر تعيش تحت وطأة حكم المماليك، بعد أن غدت الدولة العثمانية مجرد اسم بعيد في إسطنبول. كان إبراهيم بك ومراد بك هما السيّدين الحقيقيين للبلاد، يقتسمان السلطة والثروة، ويتصرفان في أموال الناس كأنها ملك خاص بهما.
لكن الشعب لم يعد يحتمل.
بدأت شرارة الثورة في صيف عام ١٧٩٥، حين وصل إلى القاهرة وفد من أهالي بلبيس يشكون ظلم محمد بك الألفي الذي استولى على أراضيهم وأثقلهم بالجبايات. توجهوا بشكواهم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي، شيخ الأزهر وصاحب النفوذ الكبير، الذي كانت له أملاك في تلك النواحي.
غضب الشيخ الشرقاوي غضبًا شديدًا، فكتب إلى إبراهيم بك ومراد بك يطالبهما بالعدل. لم يأبه له الحاكمان.
فعاد الشيخ إلى الأزهر، وأغلق أبوابه، وجمع كبار العلماء:
– الشيخ السادات
– الشيخ البكري
– الشيخ محمد الأمير
– والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، الرجل الذي كان صوته يرجّ القلوب.
في صباح اليوم التالي، انطلقت المظاهرة الكبرى.
خرج الآلاف من الأزهر، يتقدمهم المشايخ بجببهم البيضاء وعمائمهم العالية، وخلفهم العامة بكل طبقاتها: التجار، الحرفيون، الطلاب، الفقراء. أغلقت الأسواق، توقفت الحركة، وامتلأت شوارع القاهرة بهتاف واحد:
«نريد العدل! نريد إبطال المكوس! نريد العدل !»
اتجهت المظاهرة إلى بيت الشيخ السادات قرب قصر إبراهيم بك. أرسل إبراهيم بك أيوب بك الدفتردار ليسأل: «ما تريدون؟»
فرد العلماء بصوت واحد:
«نريد رفع الظلم، وإبطال الضرائب الجديدة التي ابتدعتموها، ورد المظالم، وإقامة العدل !»
تحايل أيوب بك ثم اختفى ولم يعد. فثار الشعب أكثر.
عاد المشايخ إلى الأزهر وتبعهم الناس حتى امتلأ المسجد عن آخره. باتوا فيه ليلتهم والجو مشحون بالغضب والهتاف.
خاف إبراهيم بك، فأرسل إلى مراد بك:
«الأمر يتسع، وإن لم نُرضِهم الآن، ستقوم ثورة لا تبقي ولا تذر».
فاتفقا على التفاوض وطلبا وفدًا من العلماء.
ذهب الشيخ الشرقاوي والسادات والبكري والأمير، ومعهم عمر مكرم.
وقبل أن يخرج الوفد، وقف عمر مكرم أمام العامة وقال بصوته الجهوري:
«إذا لم نعد خلال ساعتين… فافعلوا ما ترون!»
دخل الوفد قصر إبراهيم بك، وحضر الوالي العثماني وقاضي القضاة وكبار الأمراء.
وقف الشيخ الشرقاوي وقال بصراحة لم يسمعها المماليك من قبل:
«ما فعلتموه إثم عظيم، ولا توبة إلا برد المظالم!»
تحت ضغط الشارع الذي كان يغلي خلف الأبواب، اضطر إبراهيم بك ومراد بك أن ينزلا عند رأي العلماء. اعترفا بظلمهما، وتعهدا أمام الجميع بما يلي:
• رد ٧٥٠ كيسًا من المال المنهوب
• إبطال كل الضرائب والمكوس الجديدة
• عدم فرض أي ضريبة جديدة إلا بمشاورة العلماء
• إعادة صرف جرايات الأوقاف والأرزاق والشّوَن
• استئناف إرسال الغلال والعوائد إلى الحرمين الشريفين
• كف الأتباع عن مد أيديهم إلى أموال الناس
كتب قاضي القضاة «الحجة الشرعية»، وقّع عليها الوالي، وختمها إبراهيم بك بخاتمه، ثم أرسلت إلى مراد بك فختمها أيضًا.
خرج الناس إلى الشوارع يهتفون:
«الله أكبر… جاء الحق وزهق الباطل!»
فتحت الأسواق، وغنى الناس، ورقصوا في الشوارع.
لأول مرة في التاريخ المصري الحديث، انتصر الشعب على الحاكم، وأجبره على التوقيع على وثيقة تحد من سلطته المطلقة.
قال المؤرخون فيما بعد: إن هذه الوثيقة كانت أول دستور مصري في العصر الحديث، بل شبهها البعض بـ «ماجنا كارتا» الإنجليزية.
لكن المماليك لم يكونوا ليتغيروا بين عشية وضحاها.
بعد فترة وجيزة عادوا إلى ظلمهم، ونقضوا العهد، واستأنفوا الجبايات…
حتى جاء صوت آخر من بعيد، أقوى من أي ثورة شعبية: صوت مدافع نابليون عندما اقتربت من شواطئ الإسكندرية سنة ١٧٩٨.
لكن ذلك… قصة أخرى.
أما ثورة يوليو ١٧٩٥ فستظل أول صرخة للشعب المصري في العصر الحديث، بقيادة علماء الأزهر، وبطولة رجل اسمه عمر مكرم، وشيخ اسمه عبد الله الشرقاوي.
صرخة تقول:
«نحن هنا… ولن نسكت بعد اليوم».









