العربية حديقة العلم / بقلم / سراج الدين /مجلة العربي اليوم

أسطورة من الأساطير ……. كان يا من كان في زمن من الأزمان ذهبت إلى حديقة ،لأروح نفسي عن الأشغال المتراكمة والأعمال المتزاحمة ،والسآمة المتزايدة والكآبة الطارئة بروعتها الباهرة وجمالها الطبيعي ،فيعود إلي النشاط والحيوية ،وتتشحن بطاريتي المنخفضة ،وأتفسح بعد ما خالطني الانكماش والانقباض ،وأصابني الانطواء والملل ،وأرهقني التعب والنصب ،فانطلقت صوب الحديقة ،فلما وقع بصري على بهائها من بعيد وشاهدت عذوبة منظرها ،لم أتمالك نفسي إلا أن استعجلت ،لأدرك أرضها في أسرع ما يمكن ،ثم آن الأوان ،لأطأطئ رحابها بقدمي ،فأخذت أسيح فيها وأسير ،وأحوم وأتجول ،وكان يروق لي ذلك ويطيب ،فبعد برهة قليلة من الزمان على أرضها المغطّاة بالعشب والكلأ ،الملتفة بالأشجار العالية والباسقة كأنها تناطح السماء فى علوها ،المحفوفة بالأزهار المزدهرة المتلمعة ،أحسست كأن الكرب زال والضيق انكمش ،والقلب قد انتعش ،فدبت إلي الحيوية والنشاط ،وتخفف ما كان بي من ثقل وضيق ،فطفقت أتعجب من منظر الحديقة المعجب ،وأندهش ،وألمح مشهدها المبهج متأملا جماله الخلاب والجذاب ،وأتحبّذ خضرتها المريحة .كل من ولج فيها على الفرح على وجهه وطفا ،وبدت سمات السعادة على وجهه ،وظهرت أسارير البهجة على جببنه ،وسادت الحفاوة في خاطره ودبت الحياة في نفسه ،وهشّت قريحته المنقبضة ،وبشت طبيعته التعبة.
وما يُضفي المنظر حلاوة وجمالا وزهوا ،شتلات الزهور المكثفة ،وباقاتها المحاصرة حولها ،وفواراتها التي ترشّ الماء وترشقه إلى الأعلى بصرير عذب ،وترنحّ مسحر ،ثم تهبط تلك الرشحات ،والرشقات إلى أرضية الفوارة ،كأنها لآلى تنحدر من الأعلى إلى الأسفل ،أو من السماء إلى الرخام المصقل ،ثم ارنصرفت إلى الزهور ،وتوقفت أمامها وقفة المتفرج ،والناس بين ذاهب وآئب ،وأنا قائم أرمق الأزهار ،وأحدق إليها كما يحدق المحب في وجه المحبوب عند يصادفه مباشرة بعد فراق طويل وأمد طويل ،فقد أولعت بالمنظر الذي جذبني إليه واستهواني إلى نفسه ،وأجبرني على الاقتراب والدنو منه كأن قوة غيبة تسوقني إليه دونما إحساس وشعور مني بذلك ،فكلما اقتربت منه ،وخطوت نحوه خطوة ،زدت بهجة وسرورا ،حتى إذا بلغت الغاية التي كنت أتغياها ،والمرام الذي كنت أرومه ،انعكست النتائج ،وتغيرت المناظر ،وتبدلت الأحوال ،فرأيت الأزهار المفتحةتتناثر ورودها وتذبل ،والأشجار الباسقة تتكسر أغصانها وتتساقط ،وبدأ الحزن يستولي علي ويتربع على عرشي ،والكآبة تملك على لبي ومشاعري ،والقلب يعتلج ،والفؤاد يحترق…عندها أيقنت أنها في سبيل التلف والهلاك ،وطفق لمعانها ينزاح شيئا فشيئا ،فتراجعت من تلك الحديقة متقهقرا ،وعدت أدراجي لا ألوي على شيء سادرا أهيم هلى وجهي لا أهتدي ،فتوقفت قليلا غرقت في الأفكار سابحا فيها أتفكر كيف أعثر على حديقة لا تضمحل زهورها، ولاتذبل ورودها ولاتتلاشى ،فحصرت على الذهن أفكر في حديقة ،وهنا بدأت أحدث نفسي:
هل يسعني العثور على حديقة لاتقبل الخمود والذبول ،ولاتعرف الكلل والملل ،ولاترضى بالهلاك والفناء ؟؟؟فبينا أنا كذلك فإذا فكرة اعرتني وخطرت لي على بال تطرقت إلى ذهني ونفذت إلى مخي ودماغي ،وما أدراك ما تلك الفكرة ؟؟
وهي:أن لازهور في الدنيا أكثر لمعانا ،وأطول مكثا ،وأجزل فائدة ،وأجدى نفعا ،وأفوح عبقا ،من الزهور المقتطفة من الحدائق العلمية النابتة من الأنوار الإلهية ،فهممت إدراكها ،والحصول عليها ،ولكن كيف يتسنى لي نيلها ،إن لم أدخل حديقتها ،ولم أخص غمارها ،ولم أسلك مسلكها ،فأين تلك الحديقة العلمية التي يتنضر من يتخللها وينعم ،ويهدأ باله ويسكن خاطره ،وأين تلك الحديقة التي تحيط على الدرر واللآلي من مختلف العلوم والفنون ؟؟؟؟ألا وهي حديقة اللغة العربية التي تكتنف الدرر النادرة ،وتحوي الجواهر الفذّة ،والعيون العلمية الفريدة ،السائغة العذبة، السائلة الصافية ،بين دفتي مئات الكتب العربية.
فيا للعجب!!!
لمن مرّ ببحر العربية ،ولم يغترف من ماءه ،ورآى شاطئه ،ولم يستنشق من هواءه!
وطوبى لمن خاض هذا البحر ،فمضى إلى قعره ،وانغمس فيه وغرق ،ووصل إلى لجّه ،وغاص في موجاته ،فانتهى إلى أوجه ،ونهل من ماءه ،فأشبع نفسه ،فهنيئا له!
سراج الدين الباكستاني ،









