الخديوي عباس حلمي الأول: الحاكمُ المتديّن الوحيد في أسرة محمد علي باشا

الخديوي عباس حلمي الأول بن أحمد طوسون باشا بن محمد علي باشا، الحاكم الثالث لمصر بعد مؤسس الأسرة محمد علي، وبعد عمه إبراهيم باشا. وُلد في مدينة جدة سنة 1813م، ونشأ بها في بيئة عربية محافظة، ثم انتقل إلى القاهرة حيث عاش فترة من حياته في كنف أسرته الحاكمة، إلا أنه خالفهم في التوجه والمنهج.
فبينما انغمس محمد علي باشا وإبراهيم باشا في مشروع تغريب مصر وتغذيتها بالبعثات إلى فرنسا، واستيراد القوانين الغربية، والسعي وراء المظاهر العسكرية الأوروبية، جاء عباس حلمي الأول ليكون غريبًا في بيته، سلفيًا في بيئة علمانية، وإصلاحيًا في قصرٍ مُغتربٍ عن الإسلام.
تولى الحكم سنة 1848م، فأعاد لمصر شيئًا من روحها الإسلامية المفقودة، وكان محبًا للشريعة، سلفي النزعة، مؤيدًا لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته السنية الإصلاحية. وقد تأثر بها تأثرًا عميقًا من خلال اتصاله ببعض علماء الحرمين الذين نقلوا له منهج الدعوة، فمال إلى تطهير العقيدة، ومحاربة الشركيات، وهدم الأضرحة، ومحو البدع والخرافات.
كما وقف في وجه التيارات التغريبية القادمة من أوروبا، وأغلق الباب أمام إرسال البعثات التعليمية إلى فرنسا، مُفضلًا تأسيس المدارس داخل مصر تربيةً لأبناء المسلمين على العقيدة الصحيحة والمنهج القويم.
وكان من أبرز مواقفه أن رفض الانبطاح للنفوذ الأجنبي الصليبي، وعلى رأسه النفوذ الفرنسي، فحفظ استقلال البلاد المالي، ورفض الاقتراض الخارجي، حتى إن خزينة الدولة في عهده كانت تحوي مليون فرنك ذهبي، وهو ما يُعدّ إنجازًا ماليًّا كبيرًا آنذاك.
و خالف عباس حلمي سياسة جده في الاعتماد على الضباط الأجانب، ورفض هيمنة الفكر الغربي على المؤسسة العسكرية. قلّص الجيش من حيث العدد، لكنه جعله أكثر انضباطًا، وطهّره من الفساد الخلقي، وأنشأ مدارس حربية في العباسية (التي كانت صحراء حينها)، وربّى الجنود على الطاعة لله، قبل الطاعة للحاكم.
و رغم أن جيشه كان أقل عددًا من جيش جده محمد علي، لكنه أنقى طويّة، وأقوم سلوكًا، وأشد تمسكًا بالشريعة، فآثر الجيوش المؤمنة على الجيوش الكثيرة. وكان يرى أن نُصرة الدين والعدل لا تحتاج جيوشًا ضخمة، بل رجالًا يخافون الله.
كما ألغى البعثات العلمية إلى فرنسا التي كانت تغرس العلمانية، واستبدلها بمدارس دينية في مصر، ورأى أن العلم النافع لا يُؤخذ ممن لا خلاق له ..
ومن أعماله المباركة إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التي كانت تجوب الشوارع والقرى، تأمر الناس بالصلاة، وتنهى عن الفساد والفجور. كما أغلق دور البغاء، ومنع الميسر، وجعل من “غفير الليل” أداة للرقابة الأخلاقية، يجوب الأحياء ليلاً ينادي بصوت عالٍ: “هاااه… مين هناك؟”، فتعمّ الهيبة ويضبط الأمن، وتقلّ مظاهر الانفلات.
وكان شديدًا على من تساهل في إقامة الحدود، فأعاد تطبيق حدّ شرب الخمر وحدّ القذف. كما أبعد الموظفين النصارى عن المناصب الكبرى، لما كان يراه من الخطر في تمكين غير المسلمين من رقاب المسلمين، ونفى من تعاطف معهم من العلمانيين وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، الذي نُفي إلى السودان، بعدما رأى منه توددًا إلى النصارى وغيرةً عليهم.
ولم يترك السحرة والدجالين يعيثون في الأرض فسادًا، بل أمر بجمعهم ونفيهم إلى السودان، ولذلك شاع في بعض الأقطار أن السودان أصبح موطنًا لكثيرٍ من أولئك المنحرفين.
ورغم تمسكه بالشريعة، لم يكن عاطلاً عن التنمية، بل أسس مشروعات عظيمة، منها الخط الحديدي بين القاهرة والإسكندرية ، وبنى عدة مدارس حربية بمنطقة العباسية، ومدّ خطوط التلغراف لتسهيل المراسلات، وبنى المساجد، ومنها مسجد السيدة زينب كما نعرفه اليوم.
وكان يشجّع الأمراء على الصلاة، فمن واظب منهم على الصلاة أعطاه راتبًا شهريًّا، ومن تهاون في العبادة حُرم من العطاء. وقد وقع أن دخنت إحدى نساء الحرملك، وكان التدخين عنده منكرًا ظاهرًا، فأمر بخياطة شفتيها ردعًا، لكن العلماء تدخلوا فعدل عن التنفيذ.
كره الغرب هذا الحاكم الذي جاء ليهدم مشروعهم في تغريب مصر، ويوقف زحفهم الثقافي والفكري، ويُعلي من شأن الشريعة. فبدأت حملات التشويه ضده، فوُصف في صحفهم بـ”المتوحش” و”المنغلق”، ثم أطلقوا عليه شائعات الظلم والقتل والجنون، وزعموا أنه خنق النساء وأنه قطع ألسنة الجواري، وكلها دعاوى لا تثبت أمام التمحيص.
بل إن كثيرًا من هذه الدعاوى كانت جزءًا من خطة استعمارية هدفها شيطنة كل حاكم أو شخص يُفكر في إعادة الإسلام إلى السلطة، حتى يبغضه الناس، وينصرفوا عن منهجه فيدعون أنه إرها…بي و متوحش تارة ، و متخلف تارة أخرى …
وقد تآمر عليه بعض مماليك القصر الأشقياء بدعم من أعدائه، فاغتيل في قصره سنة 1854م، وراحت أقلام الغرب والعلمانية تُشوّه ذكراه حتى اليوم في الكتب و المنهاج الدراسية ووسائل الاعلام .
📚 المصدر:
الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر وآثارها في حياة الأمة









