المشهد الأخير للخلافة العباسية: دماء على ضفاف دجلة

في أواخر أيام #الخلافة العباسية، لم تكن بغداد تلك المدينة الزاهرة التي كانت يوماً عاصمة العالم الإسلامي. كانت الدولة قد أصابها الضعف من الداخل قبل أن يأتي الخطر الأكبر من الشرق على يد المغول بقيادة هولاكو. لم يكن سقوطها مجرد غزو خارجي، بل نتيجة سنوات طويلة من التشرذم والفساد والصراعات الداخلية التي جعلتها لقمة سائغة.
كان الخليفة المستعصم بالله، آخر خلفاء #بغداد، رجلاً ضعيف الإرادة تماماً. لم يكن يحكم بنفسه، بل كانت الحاشية تحكم نيابة عنه. في قصره، سيطر رجال مثل شرف الدين إقبال الشرابي (قائد الجيش الأسبق)، ثم مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير زعيم المماليك الأتراك والشراكسة. كان هؤلاء يديرون شؤون الدولة كما يحلو لهم، يتقاتلون فيما بينهم، ويتركون الخليفة عاجزاً مسلوب الإرادة. يُروى أنه كان يقضي معظم أوقاته في اللهو، يلعب بالحمام والطيور، أو يجلس في خزانة الكتب دون أن ينتفع بها كثيراً، بينما يتلاعب به مستشاروه
كانت الحاشية تتآمر حتى على الخليفة نفسه. وعندما اقترب المغول من العراق، فكر بعضهم في خلعه ومبايعة ابنه الأكبر. وكان الدويدار الصغير يهوّن من خطر المغول قائلاً إنهم لن يجرؤوا على بغداد، بينما نصح الوزير مؤيد الدين بن العلقمي بإرسال الهدايا لكسب ودهم.
والصراع الحقيقي كان بين الدويدار الصغير وابن العلقمي شخصياً وسياسياً. عندما اتهم الوزير قائد الجيش بالتآمر لنقل الخلافة إلى ابن الخليفة، انحاز المستعصم إلى الدويدار. فغضب ابن العلقمي غضباً شديداً وبدأ يبحث عن وسيلة للانتقام. وعندما اقترب المغول، وجد الفرصة الذهبية: كاتب هولاكو سراً، شجعه على غزو بغداد، وأوهم الخليفة بأن تسريح معظم الجيش سيوفر النفقات، فأصبحت المدينة عزلاء تماماً.
لم يكن الجيش العباسي قوياً أصلاً. في السابق، لم يعتمد الخلفاء عليه في حروبهم الكبرى، ومع بخل المستعصم الشديد – الذي كان يجمع الذهب في خزائنه ويحرمه من جنوده – انقطعت الأرزاق، فانفض الجند عنه. كانوا يتضورون جوعاً، والعتاد قليل جداً، فكيف يواجهون جيشاً مغولياً هائلاً؟
أما الاقتصاد فقد انهار تماماً. أُهملت مشاريع الري منذ عهود، فغرقت الأراضي أو جفّت، وأثقل الناس بالضرائب والمكوس. كان الخليفة الناصر لدين الله سابقاً يغتصب الأموال اغتصاباً حتى صارت المدن تخشى مرور القوافل التجارية بها. كسدت التجارة، تراجعت الزراعة، ولم تُبنَ قصور أو مدارس جديدة إلا نادراً (مثل المدرسة المستنصرية).
وفي الخارج، لم يقف حكام المسلمين مع الخلافة. في كرمان وفارس والموصل والسلاجقة الصغار، تنافس الأمراء في تقديم الطاعة لهولاكو، وأرسلوا الجنود والمعلومات، بل شارك بعضهم في الحملة خوفاً على عروشهم الهشة.
أخيراً جاء اليوم المشؤوم في محرم 656هـ / فبراير 1258م. حاصر #هولاكو بغداد بجيش يُقدَّر بنحو مئتي ألف مقاتل. خرج الجيش العباسي الضعيف لملاقاتهم خارج الأسوار فانهزم وهلك معظمه. ثم اقترب المغول من المدينة.
خرج ابن العلقمي أولاً والتقى بهولاكو، ثم أقنع الخليفة بالخروج للتفاوض بسبعمئة من أعيان الدولة وقضاتها وعلمائها. خرج المستعصم، ففصلوه عن رفاقه وقتلوا الجميع إلا قلة. ثم دعوه مرة ثانية، وبنصيحة ابن العلقمي الذي قال لهولاكو: «إن صالحته اليوم عاد الأمر كما كان بعد عامين»، أمر هولاكو بقتل الخليفة. لفوه في بساط وضربوه بأرجلهم حتى الموت، حسب تقاليدهم في قتل الملوك.
ثم انهار كل شيء. لأربعين يوماً اجتاح #المغول المدينة، قتلوا مئات الآلاف – تتراوح الروايات بين ثمانمئة ألف ومليوني نسمة – رجالاً ونساءً وأطفالاً. دمرت المكتبات العظيمة، وأُلقيت الكتب في دجلة حتى اسودّ ماؤها، وغرق النهر بدماء القتلى، وانتشر الوباء. خرج الناجون من الأقبية والمغارات كالأشبحة، لا يعرف أحدهم الآخر.
رحل هولاكو تاركاً العراق قاعدة لجيوشه، وبغداد التي كانت «دار السلام» أصبحت كومة من الرماد والأنتنة. انتهت الخلافة العباسية في بغداد إلى الأبد، ولم يتوقف الزحف المغولي إلا بعد سنوات في معركة عين جالوت









