حمزه الحسن يكتب :صيف في قلب الشتاء

«نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا»* ممدوح عدوان.
أكثر الذين عانوا من خسارة معركة أو خذلان ، كانوا كباراً في مواجهة ظروف صعبة ومعقدة، لكنهم خسروا معارك صغيرة، وخسروها أمام كائنات صغيرة ولا يمكن تسمية ذلك هزيمة من لغة القوالب لأن هذا النوع من الخسارات هو ربح في النهاية وفي الغاية: أن تخسر معركة صغيرة، فهذا دليل على أنك لا تعرف اللعب بقواعد الصغار، الثقة المفرطة في نبل القلب البشري، عبور عقبات كبيرة سابقاً مما رسخ ثقة كبيرة في النفس، خوض معارك الحياة بقواعد نظيفة وشريفة وواضحة ولا تعرف الطرق الملتوية، الشعور بعدم الحاجة لحشد الطاقة في مواجهة معركة صغيرة لا تستحق قد يقود الى فتح ثغرات وتصدعات غير متوقعة لأن الخصوم الصغار لا ينفذون إلا من الفتحات الضيقة المنسية كالفئران.
الخطأ الأهم هو التركيز على رؤية واسعة ولا يرون في الحدث الصغير أكثر من صخب عابر، ومن المحتمل أن يكون دخل معركة صغيرة في نهاية معارك كبرى استنزفت طاقته ولا يجد سبباً للاعتراف بعدو صغير أو مواجهة ضحلة لا تستحق أمام طرف تدرب على خوض معارك الوحل وخطط بسرية كعقرب في حقيبة سفر.
وقد نقع جميعاً في حالات أمام وهم ان المعركة صغيرة لا تستحق الانتباه واليقظة وحشد الطاقة ونواجهها بأقل جهد أمام خصم استعد جيداً لفترة طويلة وخطط في مراحل لكل خطوة وجهز قواعد لا يعرفها من اعتاد على معارك نظيفة وواضحة وكما يقول المثل العراقي” الطير الحذر ينصاد من منقاره”.
ماذا يفعل الانسان الاعزل اليوم في غابات الاسلحة والضغائن والقبائل والحروب والعقول المحاربة؟
ماذا يفعل طائر وجد عشه مخربا غير رفيف الاجنحة والذهول لان الطائر ما كان ليبني عشه لو لم يكن واثقا من الحياة بتعبير غاستون باشلار؟.
العقل المحارب لا ينتج معرفة بل يقوم على فرضية الصح والخطأ ـــــــــــ مع أو ضد ــــــــ وحتى هذه الفرضية تصدر من انحيازات مسبقة في حين المعرفة اكتشاف دروب بعقل صاف مستعد لتبديل القناعات. المعرفة تراكم ثقافة بالاختلاف وليست نطح قرون.
لا نتحدث عن مسلح صاحب قضية عادلة كالأرض والحرية والعدالة والمصير بل عن مسلح مشحون بالكراهية والتطرف ونزعة العدوان وشهوة الانتقام التي لا ترتوي او تشبع: هاوية مفتوحة للموت والكراهية.
وجود الانسان الأعزل في هذا الاشتباك كوجود طفل في حلقة ذئاب وفي أي صراع لن يكون رابحاً لأنها ليست ساحته وليس هدفه فكرة الانتصار في أي معركة بل فكرة صنع المصير ولو خرج مضرجا بالجراح المضيئة لانها أوسمة نبل مشعة على أنه لم يستسلم ولم يخضع للحسابات الصغيرة عن الخسارة والربح ولا من المنتصر ومن المهزوم لان الانسان الأعزل لديه معاييره الخاصة: ليس من المعقول ان تدخل في منجم فحم او في وحل وتخرج بلا بقع او في صراع مع ذئب بلا آثار مخالب.
هذه الاثار، الندوب، علامات مضيئة.
من الغباء المفرط توقع ردود الأعزل على أفعال حسب توقعات الاخرين لأن هؤلاء يتوقعون انطلاقا من تجارب مختلفة ومع نماذج تقليدية مسطحة. ردود الاعزل من نظام تفكير مختلف يخضع لعوامل نفسية وثقافية تكون صادمة في حال تعرضه للاساءات العميقة وفي زمن غير متوقع وحسابات لا تخطر بالبال.
التعامل مع الأحمق على أنه غير موجود وهو فعلا غير موجود في نظر نفسه لانه تجمع اوهام وذات مزيفة حتى تأتي لحظة نزول المقصلة.
ألم يقل العرب القدامى الحكماء” إتق شر الحليم إذا غضب”؟ والحليم ليس شريراً لكنه يفجر طاقة الغضب النائمة فيه لمواجهة شر وهذه الطاقة لا تستعمل إلا في حالات خاصة ومجمدة وهو ما اكتشفه علماء النفس عن الشخصية البريئة المتعاطفة عندما تتعرض للاهانة والتلاعب والاستغلال عندما تطلق طاقة الغضب كسلاح وقائي ضد شر داهم.
هناك نصر يختزن هزيمة أخلاقية وهناك فشل يختزن انتصاراً أخلاقياً لعدم تكافؤ القوى وقسوة الظروف ومجرد دخول المعركة هو انتصار بصرف النظر عن النتائج.
حساب النتائج على ثنائيات منتصر ومهزوم في معارك الحرية والمصير والكرامة الانسانية هي حسابات بقال. رغم ذلك الأعزل فضيحة المسلح، سواء كان مسلحاً بالمال أو السلطة أو الأتباع أو الأوهام الصلبة. لماذا الأعزل فضيحة المسلح؟
الأعزل ليس المجرد من القوة، بل المجرد من الدناءة، قوة الأعزل في أعماقه وولد من رحم تجارب وثقافات ومبادئ مختلفة،
وقوة المسلح في السلاح وفي الاتباع والطرق الملتوية لأنه مسخ ولد من رحم جماعة ومن تجارب مشوهة وعقل مختل ومنحرف.
الأعزل يتيم في حفل التشابه والتناسخ والأقنعة، والمسلح يزدهر في التطابق والمديح والاشباه لانه كتلة في جماعة او برغي في عجلة ضخمة.
المسلح قناع في حفل تنكري مزمن وليس في حياة، والأعزل وجه حقيقي في حفل اطفال ، المسلح يحول البشر الى أشياء لكي يسهل العدوان عليهم، بالسلاح أو الخسة، والأعزل يحول الأشياء الى جمال:
المسلح وعاء فارغ وعقل مستقيل يملى عليه لانه ببغاء ملقن و” الأحمق يعرف كل شيء عن أي شيء” وهو لا يعرف من هو، في حين الاعزل عقل حر ومفتوح كسهل ابيض طليق والحقيقة عنده اكتشاف وتجارب واقتراب.
لا يتواجد أعزل ومسلح في مكان واحد، لا يتواجد الظلام والنور في مكان واحد، كما لا يتواجد طفل وذئب في قفص ، النشيج ليس الضجيج ولهب شمعة غير الحريق.
يحترق المسلح ـــــــــــــ المسلح بالسلاح أو الدناءات أو الاتباع ــــ يوماً لكن الأعزل يضيء. عزلته مضيئة لا تحترق.
يشرق الأعزل في وجود نظيف ونقي ويطفيء المسلح كل ضوء ولا يزدهر الا بين الانقاض والحيل والدسائس والجيف،
محكوم عليه الموت في الحياة ومحكوم على الأعزل الحياة بعد الموت. هناك بشر ولدوا بعد الموت وبشر ماتوا في الحياة.
المسلح حيوان في حالة قنص بالسلاح او المخالب او الفخاخ ، والأعزل انسان في حالة قنص للجميل والممتع والاستثنائي ، متعة المسلح في أوجاع الضحية، ومتعة الأعزل في فرح الناس، في شفق متوهج أو عربة أطفال أو عائلة تجلس بهناءة في حديقة.
المسلح عالمه مكتمل وجاهز في قوالب وهو يدخل فيه كمعطف ابدي،
كملابس في دمية عرض في متجر، وعالم الأعزل خلق وتشكل واكتشاف.
سرور المسلح بين الانقاض والجثث والحسابات الصغيرة وأنين ضحاياه،
لا شيء في داخله يستمد طاقة الحياة منه، ليس غير الغبار والشحوب والخواء والخطط المستنزفة ومعارك الصغار،
فراغ وجحيم وعطب داخلي يحاول التعويض عنه بصيد الضحايا،
علاقته بالناس كالعلاقة مع محطة وقود، ينتقل عند الفراغ من محطة الى أخرى. هو فراغ لا يمتلئ. يبحث عن مكانة من الخارج لانه بلا مكانة داخلية. طبل مرمي على مزبلة.
الاعزل إمتلاء دائم وطاقة الحياة فيه، سعادة المسلح في أحزان وأوجاع الناس، وفرح الأعزل بسعادتهم. المسلح مشروع مقبرة والأعزل مشروع حديقة.
ينهار المسلح ويتوسل ويستغيث لو وجد نفسه وحيداً أو عارياً أو مكشوفاً في أي معركة أو مواجهة أو صراع لأن قوته وشراسته ومكره وحيله في الجماعة وفي الاطراء والمديح والاقنعة والتخفي وليست فيه، في حين يشرق الأعزل في الصراع وحيداً لأن قوته في داخله بلا عكاكيز ومساند ومتكئات من الخارج لأن قوته فيه ولا يتردد في عبور الاهوال في حين يخاف المسلح عبور ساقية وحيداً.
المسلح تاريخ عفن والأعزل مستقبل كامن في الجذور وحبة قمح في التراب او جيب فلاح تصبح حقل سنابل،
يشرق الأعزل في حديقة ويشرق المسلح في ثلاجة موتى وفي صناعة الافخاخ،
المسلح جبان يبحث عن استعراض وانتصارات خارجه وعن ضحايا عزل، الأعزل لا يحتاج الى إستعراض لأن النور الداخلي يشع على وجهه كوجه رضيع نائم وحتى في البرد يتدثر بتاريخه كما لو في صيف متألق. كما قال ألبير كامو:
” في عمق الشتاء البارد أكتشفت أن في داخلي صيف لا يقهر”.
الأعزل منسي في الضجة والصخب والمهرجان ويوم تنتهي أفراح المقاولين وحفلات الزور ويهدأ التاريخ من عربدته، عندها سيكون المغني الوحيد عندما تسدل الستارة على مسرح الزور ويبدأ نشيد أطفال لم يولدوا بعد.
ـــــــــــــ ألبير كامو , كتاب: الصيف . الشقة المغربية ضواحي الدار البيضاء الريفية .









