الصدام الذي كاد يدمر الدولة العباسية الوليدة

توفي الخليفة الأول أبو العباس السفاح سنة 136 هـ، فهبت رياح الفتنة تهز أركان الخلافة الجديدة. كان أبو جعفر المنصور – شقيق السفاح – عائداً من الحج، فلما بلغه خبر وفاة أخيه وهو في ذات عرق، تسارعت خطاه نحو السلطة. كان معه أبو مسلم الخراساني، صاحب الجيوش التي حملت العباسيين على أكتافها. عزّاه أبو مسلم في أخيه، فبكى المنصور، فقال له أبو مسلم بجرأة: «أتبكي وقد جاءتك الخلافة؟ أنا أكفيكها إن شاء الله». فانفرجت أسارير المنصور، ومضى يثبت أقدامه. بايعه أهل العراق وخراسان وسائر البلاد، إلا الشام، فتلك كانت تنتظر حدثاً آخر.
أما عم الخليفة عبد الله بن علي، فقد كان في طريقه إلى بلاد الروم قائداً للصائفة بجيش عظيم. فلما وصله خبر موت ابن أخيه، انحرف عن وجهته ورجع إلى حران، وأعلن أن السفاح قد عهد إليه بالخلافة سرّاً حين بعثه لقتال مروان بن محمد. صدّقه كثيرون، وشهد له بعض الأمراء، فالتفّت حوله الجيوش الشامية، وبايعوه خليفة.
بلغ الخبر المنصور في الأنبار، فلم يتردد. كتب إلى عمه يعلمه بوفاة السفاح، لكن عبد الله لم ينتظر ردّاً. جمع الناس، أعلن العهد المزعوم، ثم حاصر حران أربعين ليلة حتى استسلمت، وقتل نائب المنصور فيها.
عندئذٍ أرسل المنصور أبا مسلم الخراساني على رأس جيش كبير ليضع حداً للفتنة. تحصّن عبد الله في حران، وخزن فيها من الطعام والسلاح ما يكفي سنين. لكن الخوف دبّ في قلبه من جيش ابو مسلم ، فقتل منهم سبعة عشر ألفاً في ليلة واحدة. ثم انتقل إلى نصيبين، وحفر خندقاً حول معسكره.
جاء أبو مسلم، فنزل قريباً منه، وكتب إليه رسالة ماكرة: «لم أؤمر بقتالك، إنما بعثني أمير المؤمنين والياً على الشام، فأنا أريدها». ارتاعت جيوش #الشام، وقالوا: «نخاف على أهلينا وأموالنا، فلنرجع نحمي ديارنا». حذّرهم عبد الله: «والله إنه جاء لقتالنا!» لكنهم لم يسمعوا، فارتحلوا نحو الشام. تبعهم عبد الله مضطراً، فاستغل أبو مسلم الفرصة: احتل الموضع الجيد الذي تركه العم، وغوّر الآبار حوله. اضطر عبد الله وجيشه للنزول في المكان الرديء، فنشبت المعارك.
دام القتال خمسة أشهر طويلة، وقُتل فيها الآلاف. كان أبو مسلم يجلس على عرش مرتفع يراقب الميدان، فإذا رأى خللاً في صفوف جيشه أصلحه فوراً، وهو يرتجز:
«من كان ينوي أهله فلا رجع
فرّ من الموت وفي الموت وقع»
أخيراً، في يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة 137 هـ، جرت المعركة الفاصلة. دبّر أبو مسلم مكيدة بارعة: أمر قائد ميمنته الحسن بن قحطبة أن ينتقل بمعظم قواته إلى الميسرة سرّاً. فلما رأى الشاميون الميسرة تزدحم بالجيوش، انحازوا إليها بكاملهم. عندئذٍ أمر أبو مسلم قلبه وبقية ميمنته بالهجوم على ميسرة الشاميين الخالية، فحطموها، ثم تهاوى الجيش كله، ووقعت الهزيمة الكبرى.
فرّ عبد الله بن علي مع أخيه عبد الصمد، واستولى أبو مسلم على معسكرهم بما فيه من كنوز. أمّن الناجين، وكتب إلى المنصور بالنصر. استقرت الأمور للمنصور، وأصبحت الممالك في يده.
أما عبد الصمد فقد أقام في الرصافة، فأُمسك به وأُرسل مكبّلاً إلى المنصور، فاستؤمن له عند الخليفة فنجا. وأما عبد الله بن علي، فاختفى عند أخيه سليمان في البصرة زمناً. لكن المنصور علم بمكانه، فأمر بإحضاره. سُجن في بيت بناه المنصور ، ثم أطلق الماء عليه بعد سنين، وسقط البيت على السجين فمات تحته.









