رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب:حين تتزوج العقيدة بالسلطة: دليل مُختصر لصناعة الارهارب

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

أينما وُجدت أيديولوجيا دينية سياسية، وُجدت معها مدرسة سرّية لإنتاج العنف. لا تحتاج إلى مختبرات نووية ولا إلى تقنيات معقّدة؛ يكفي كتاب مُقدّس مُسيَّس، وخطاب تعبوي، وطفلٌ يُلقَّن قبل أن يتعلّم التفكير. هكذا تُصنع «القداسة المسلحة»، وهكذا تتحوّل التنشئة الاجتماعية إلى ورشة دائمة لإعادة تدوير الكراهية.
أولًا: التحليل النفسي – عندما يُربّى الخوف كفضيلة
في قلب الأيديولوجيا الدينية السياسية، يُعاد تعريف النفس البشرية: الخوف يصبح إيمانًا، والشكّ يصبح خيانة، والطاعة تُقدَّم بوصفها النجاة الوحيدة. الطفل لا يُربّى على السؤال، بل على الإجابة الجاهزة؛ لا يتعلّم إدارة الغضب، بل توجيهه نحو «عدوّ» مُتخيَّل. ومع كل خطبة تعبئة، تُزرع عقدة التفوّق الأخلاقي: نحن الطاهرون، والآخرون مشروع خطيئة. هكذا تنشأ شخصية مأزومة تبحث عن خلاصها في إقصاء غيرها.
ثانيًا: التحليل الاجتماعي – تفكيك المجتمع باسم الجماعة
المجتمع في ظل هذا الزواج القسري بين الدين والسياسة يُعاد هندسته: العائلة تُستبدل بالجماعة، والحيّ يُستبدل بالخلية، والتكافل يتحوّل إلى ولاء. يُكافأ المطيع ويُنبذ المختلف، فتُكسَر الروابط الطبيعية ويُستبدل بها رابط واحد: السمع والطاعة. النتيجة؟ مجتمع هشّ، سريع الاشتعال، تُدار خلافاته بالسلاح بدل القانون.
ثالثًا: التحليل الثقافي – اغتيال المعنى والضحك
الثقافة أول الضحايا. الموسيقى تُتَّهَم، المسرح يُشيطَن، والكتاب يُراقَب. يُستبدل الجمال بشعارات، والخيال بقوائم محظورات. حتى الضحك يصبح جريمة لأنه يُضعف «هيبة المقدّس المُسلَّح». في هذا المناخ، يذبل الإبداع، وتشيخ الروح العامة، ويُستبدل السؤال الثقافي بإجابة واحدة صالحة لكل الأزمنة: حرام.
رابعًا: التحليل السياسي – دولة داخل الدولة
سياسيًا، لا تؤمن الأيديولوجيا الدينية السياسية بالدولة الحديثة؛ تؤمن بالسلطة. تُقيم مؤسسات موازية، وقضاءً موازيًا، وأمنًا موازيًا، ثم تطالب بالاعتراف الدولي. هي لا تدخل السياسة لتديرها، بل لتبتلعها. وحين تفشل، تتهم المجتمع، وحين تُهزم، تتهم العالم، وحين تحكم، تتهم الجميع.
خامسًا: التحليل الاقتصادي – اقتصاد الطاعة
الاقتصاد هنا ليس إنتاجًا بل تعبئة. تُموَّل الجماعة عبر التبرعات «المقدّسة»، والجبايات «الشرعية»، والاقتصاد الأسود. الفقر يُدار لا يُعالَج، لأنه الوقود الأرخص للتجنيد. العامل لا يُكافَأ على عمله، بل على ولائه، فتُقتل الكفاءة وتزدهر الزبائنية، ويُختزل الرزق في يد الخطيب.
سادسًا: التحليل العسكري – عسكرة العقيدة
عسكريًا، تتحوّل النصوص إلى أوامر عمليات. لا عقيدة قتالية وطنية، بل فتوى. المقاتل لا يعرف لماذا يقاتل، بل ضد من. تُختزل الحرب في ثنائية بسيطة: معنا أنت مؤمن، ضدنا أنت هدف. ومع كل جولة عنف، تتوسّع دائرة الدم ويضيق أفق السلام.
سابعًا: التحليل الدبلوماسي – عزلة باسم السماء
دبلوماسيًا، تُدار العلاقات الخارجية بمنطق الوعيد. العالم يُطالَب بالاعتراف دون مساءلة، وبالدعم دون شروط. وحين يرفض، يُتَّهَم بالعداء للدين. النتيجة عزلة خانقة، وعقوبات، وتحوّل الدولة إلى ملف أمني بدل شريك سياسي.
ثامنًا: التحليل الإعلامي – ماكينة تقديس وتخوين
الإعلام هنا ليس نقلًا للحقيقة، بل إعادة تدوير للأسطورة. لغة خشبية، عناوين صاخبة، وأعداء دائمون. يُقدَّس القائد، ويُخوَّن المختلف، وتُغتال السمعة بدل مناقشة الفكرة. الحقيقة تُجزَّأ، والواقع يُفلتر، والناس تُدار بالعاطفة لا بالمعلومة.
الخلاصة :
حين تتديّن السياسة، تتسيّس العبادة، ويُسلَّح الإيمان، وتُدرَّس الكراهية في حصص التربية. لا يولد الإرهابي إرهابيًا؛ يُربّى، يُقنَع، ويُكافَأ.
الرؤية: كيف نمنع إعادة إنتاج هذا الجحيم؟
1. فصل الدين عن السلطة لا عن المجتمع
حماية الدين من التسييس، وحماية الدولة من القداسة. الدين يبقى ضميرًا أخلاقيًا حرًا، لا أداة حكم ولا بطاقة ولاء.
2. إصلاح جذري للتعليم
تعليم التفكير النقدي، تاريخ الأديان المقارن، مهارات إدارة الخلاف، وفهم الدولة والقانون. لا نحتاج أجيالًا تحفظ أكثر، بل أجيالًا تفهم وتناقش.
3. ثقافة الحياة لا ثقافة الموت
دعم الفنون، والرياضة، والمسرح، والموسيقى، والسينما، بوصفها أدوات تحصين اجتماعي لا كماليات. المجتمع الذي يضحك ويبدع أقل قابلية للتفجير.
4. تجفيف اقتصاد الطاعة
إغلاق قنوات التمويل غير الشفافة، ربط المساعدات بالإنتاج لا بالولاء، وإعادة الاعتبار لقيمة العمل والكفاءة بدل “البركة التنظيمية”.
5. دولة قانون لا دولة فتاوى
قضاء مستقل، أمن وطني واحد، وسلاح واحد. لا “شرعية ثورية”، ولا “تفويض إلهي”، ولا استثناءات باسم العقيدة.
6. إعلام مهني لا منابر تعبئة
إعلام يحقق، يسأل، ويفضح، لا يقدّس ولا يشيطن. حرية التعبير ليست ترفًا، بل خط الدفاع الأول ضد التطرف.
خاتمة قوية:
المعركة ليست مع الدين بل مع احتكاره
هذه ليست حربًا على الإيمان، بل معركة على العقل. ليست مواجهة مع الله، بل مع من نصّبوا أنفسهم وكلاء حصريين عنه. الخطر لا يكمن في الدين، بل في تحويله إلى بطاقة عضوية، وسلاح تعبئة، ومفتاح سلطة. فحين تُربّى الأجيال على أن الخلاص لا يمر عبر القانون، ولا عبر العمل، ولا عبر التعايش، بل عبر العنف المقدّس، نكون قد صنعنا قنبلة اجتماعية مؤجّلة باسم السماء.
الدولة التي تسمح بزواج العقيدة بالسلطة، لا تنتج مواطنين بل أتباعًا، ولا تبني جيشًا وطنيًا بل ميليشيات، ولا تصنع سلامًا بل هدنة هشة بانتظار الفتوى التالية. والتاريخ، بلا استثناء، يخبرنا أن هذا الزواج ينتهي دائمًا بالدموع… والدم.
الاختيار اليوم واضح وقاسٍ:
إمّا دولة مدنية تحمي حق التدين وحق الاختلاف معًا،
أو كهنوت سياسي يختطف الدين ويستنزف الأوطان.
إمّا مدرسة تُعلِّم السؤال،
أو معسكر يُدرِّب على الطاعة.
إمّا إعلام يكشف،
أو منبر يحرّض.
لا منطقة رمادية هنا.
منع الإرهاب لا يبدأ من فوهة البندقية، بل من قاعة الدرس، ومن استقلال القضاء، ومن إعلام شجاع، ومن سياسة تعترف أن قدسية الإنسان أعلى من قدسية الشعار. بدون ذلك، سنظل ندور في الحلقة ذاتها: ندفن الضحايا، نلعن الإرهاب، ثم نعيد تربية الجيل القادم على أسبابه.
هذه ليست نهاية مقال… بل تحذير أخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock