حمزه الحسن يكتب :المنفى ليس مكاناً دائماً

كثير من أسئلة المنفى تحيل الى الوطن ومستقبله ونحن نفتقر دراسات المنفى رغم ان البعض يعيشون عشرات الاعوام في دول ديمقراطية دون ان تتغير افكارهم ومشاعرهم في حياة مرفهة احيانا وضمانات عائلية ابدية ومع ذلك يبقون سجناء الذاكرة.
كثيرون يعيشون في تجمعات معزولة عن المجتمع او غيتوات لاجترار الافكار نفسها واستعادة الماضي نفسه وشراء السلع نفسها من محلات شرقية وحضور مناسبات تقليدية ومشاهدة البرامج نفسها بل حتى الخصومات تاخذ الطابع التقليدي حيث تنحاز جماعة ضد اخرى دون الاهتمام بالاسباب، ومرة صدمت لدى مروري بشارع سويدي صادف ان يكون سكانه من اللاجئين العراقيين ، عادة يعيشون في تجمعات سكنية متجاورة، واذا الشتائم تتطاير من الشرفات كما لو انك في شارع هو نسخة منقحة من حي المربعة او البتاويين في بغداد وبعضهم في فرق فنية وفي احزاب والخ. لذلك عرفنا من تجارب كثيرة ماذا سيحدث بعد سقوط الدكتاتورية.
هذه واحدة من مساوئ النظم الدكتاتورية لكن لا يجب نسيان المسؤولية الفردية ايضا لان النظم الدكتاتورية تفرض نمطا موحدا من السلوك والتفكير والرقيب الداخلي الذي يختفي في المكان الجديد لكنه مقيم في الذاكرة وصار جزءا من الهوية ــــــــــــــــــ كما في داخل الوطن بعد زوال السلطة ــــــــــــــــ ومن نسيج التفكير دون شعور. أي المنفي يعرف أم لا يحمل معه شرطيه السري القديم.
التغيير قد يبدأ من الجيل الثاني الذي يعيش صراعاً عنيفاً داخلياً من النادر يظهر للخارج حفاظاً على المظاهر: هذا الجيل هو تقليدي في المنزل وحداثي في الشارع والمؤسسة والمدرسة. هو في غيتو عزل في المنزل وفي خارجه طليق وحر . لا يستطيع التعامل مع الخارج بمعايير المنزل رغم ان البعض حقق توازنا مذهلاً بين الاثنين .
كثير من الأدباء عاشوا المنفى كمكان وفضاء للحرية وليس كنظام عزل: عبد الرحمن منيف، محمود درويش، الطيب صالح، ميلان كونديرا، ستيفان زفايج، فيكتور هيغو، فلادمير نابوكوف مؤلف” لوليتا” ، جورج أورويل، أدوارد سعيد وكونراد وغيرهم الكثير.
المفكر البلغاري-الفرنسي تزفيتان تودوروف تعمق في دراسة تجربة المنفى ليس كمكان جغرافي بل كحالة فكرية واخلاقية لانه عاش تجربة المنفى بعد مغادرة بلغاريا الشيوعية الى فرنسا.
” يرى تودوروف أن المنفي يمتلك “نظرة مزدوجة”. فهو لا ينتمي كلياً للوطن الذي تركه، ولا ينتمي كلياً للمجتمع الجديد. هذه “المسافة” تمنحه القدرة على رؤية ما لا يراه المواطن العادي في كلا البلدين. يقول تودوروف إن المنفي يستطيع نقد عادات وطنه الأصلي لأنه تحرر من سلطتها، وفي الوقت نفسه يستطيع نقد المجتمع المضيف لأنه يراه بعيون “الغريب” الذي لم يعتد على بديهياته”. مصدر.
في كتابه: نحن والآخرون” يفرق بين المسافر المهاجر وبين المنفي: الأول يحاول الاندماج او الذوبان في المكان الجديد، في حين المنفي لا هو هنا ولا هو هناك. لا يستطيع أن ينسى المكان القديم ولا رفض المكان الجديد ويبقى في منطقة رمادية.
لكنه يفرق بين تجربة المثقف وبين تجربة الانسان العادي لان المثقف قادر أن يكون جسراً بين ثقافات وعنصر تفاهم وتقارب، وينتقد بشدة حالة العزل ـــ الغيتو عندما يعزل المنفي نفسه في محيط قديم وداخل جماعات متجانسة تحمل الهوية نفسها مما يفقده ” ميزة الإكتمال من الآخر” لأنه ليس ديكوراً بل شريكاً في الاخوة والحضارة الانسانية.
تلعب الذاكرة دورا في استعادة الماضي بل منح فضائل وهمية له وهو نوع من التحايل والحنين بينما الصحيح ” استعمال الذاكرة كطريق وليس كقيد” ، وحسب تودرورف المنفى ليس ضياعاً بل فرصة تحرر من الاوهام
تعرض البير كامو وادوارد سعيد الى فكرة تعتبر مفارقة في اعادة تعريف المنفى خارج المكان أو” المنفى الداخل Internal Exile” وهو حالة اغتراب نفسي وروحي يعيشه المثقف داخل الوطن وكما قال الناقد الفرنسي برناريت فاليت:
” الكاتب يدخل في منفى من لحظة حمل القلم”.
من تلك اللحظة، لحظة التخيل والانفصال عن الواقع، يبدأ صراع المثقف الذي يضعه في مواجهة مستمرة مع قوى يفسرها كل فرد حسب ثقافته وعقيدته وتجربته.
ومنفى الوطن هو أقسى المنافي: أن تكون غريباً وتتحدث عن القيم في سوق المصالح وعن الكرامة الانسانية امام الغوغاء وعن الوفاء أمام الخيانة وتتكلم بمنطق أمام رعاع. هذا هو الاغتراب الأقسى ويتحول الوطن الى مجرد مكان للنوم وانت عابر سبيل وتستعيد قول المتنبي:
” “ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ.. وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ”.









