كتاب وشعراء

في خيمةٍ لا تتّسع إلّا لصرخة… بقلم حسن عبد السلام أبو دية

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

الخيمةُ ضاقتْ بالهواء،

فضاق صدرُ الحياة،

وحين صرختْ الأمُّ لتلد،

خرج الموت أوّلاً…

وبكى المولود بصمتٍ أزليّ.

في خيمةٍ لا تتّسع إلّا لصرخة، تختبئ الحياة في زفير امرأةٍ خرجت من بيتها وهي تحمل أطفالها الثلاثة ووصفة طبيب، وعلبة دواء فارغة، وعدّة كلمات أخيرة نسيت أن تقولها للنافذة التي كانت تطلّ على شجرة ليمون، لا يتّسع المكان للأحلام، بل يتّسع تماماً لعدد من الأنينات التي تتناوب على اللّيل كأنّها نوبات حراسة، فلا أحد ينام دفعة واحدة، بل ننام مُقطّعين بين خوفٍ وخوف، وبين رائحة عرقٍ وماءٍ متسرّب من سقفٍ لا يعترف بالمطر، الخيمة ليست بيتاً، ولكنها تنطق بلغته حين تنكمش الأجساد داخلها فتتحوّل إلى لغة واحدة: النجاة، المرأة التي بجانبي تشهق كلّ ساعة مرّة، تسأل عن ابنها المفقود في شارعٍ لم يعد موجوداً، وعندما لا تجد جواباً، تضرب الأرض بكفيها، ثمّ تنظر إلى السماء، كأنّها تقول لله: لم أعد أملك لغةً فابقَ جانبي، على الأقل لتشاهدني كيف أتحلّل ولا أستسلم.

الخيمة لا تحفظ الأسرار، فهي من قماش ينهار من البرد أو من صوت قذيفةٍ مرّت قبل أيام من فوق رؤوسنا، لكنها تحفظ نوعاً خاصاً من الخجل، خجل أن تبكي دون أن تجد وسادة، أو أن تستحمّ أمام جدارٍ من الوجوه المجهدة، خجل أن تطلب الماء وأمّك تنظر إليك كأنّك قلت كلمة لا تُقال في حضرة الجفاف، ننام على الرمل، لا نحلم، بل ننتظر أن نستيقظ، فالحلم يتطلّب سقفاً آمناً وبعض الهدوء، والخيمة لا تمنحك أياً منهما، فقط تمنحك وقتاً مؤقّتاً لتكتب وصيتك على ظهر كيس طحين، وتقول لنفسك: هذا ليس وطناً، لكنّه البقعة التي لم تُقصف بعد، فاجلس قليلاً.

في الخيمة، تفوح رائحة دمعةٍ لم تجد كتفاً، وطفلٍ يسأل عن حقيبته المدرسيّة، وأبٍ يتحدّث عن البيت الذي “كان عند المنعطف”، ويشير بإصبعه إلى مكانٍ أصبح مساحة رماديّة، ثمّ يصمت لأنّ زوجته لم تعد، ولأنّ الجيران لم يأتوا معه، ولأن ما يقوله لا يسمعه أحد، الكلّ منشغل بكثرة الأسماء، فيحاول أن يصمت بإتقان، الصمت في الخيمة هو اللّغة الوحيدة التي نتقنها جميعاً، لا نحتاج إلى ترجمة، ولا إلى لغة جسد، فالعينان كافيتان لتقول: أنا أحتضر، ولكنّني سأحيا حتّى الغد، فقط لأراك، ولأراني ما زلت هنا.

الخيمة ليست رواية قصيرة، بل سيرة ذاتيّة لجثّة مؤجّلة، كلّ زاوية فيها تشبه مقطعاً من مرثية لم تكتمل، الرائحة المختلطة من التّبغ والطّحين والدّم والعرق ليست طارئة، بل هي عطر المرحلة، والجدران المهتزّة حين يمرّ الهواء تصبح شاهداً جديداً على رعبٍ بلا عنوان، هنا نام رضيع ومات عجوز وتبادل عاشقان الرّسائل بالصّمت، هنا سقطت امرأةٌ من التّعب، ونهضت فقط لأنّ صغارها يحتاجون ماءً دافئاً لا تملكه.

الخيمة لا تسأل: إلى أين؟

هي لا تعرف الاتجاهات، لكنّها تتذكّر كلّ من دخلها باكياً وخرج ساكتاً، تفتح فمها في اللّيل لتبلع أحلام من فيها، وتخيط أنفاسهم بخيوط لا تُرى، في كلّ صباح تلد الخيمة نسخة أخرى من نفسها: أكثر تشوّهاً، أكثر ضعفاً، أكثر حاجة إلى المعجزة، لكن لا أحد هنا ينتظر المعجزات، فقط ننتظر أن يمرّ يومٌ جديد دون أن نفقد عضواً جديداً من العائلة أو من الرّوح، ودون أن تتحوّل الخيمة نفسها إلى كفن..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock