في ظلال دجلة: قصة بدر الدين لؤلؤ والمغول

كان بدر الدين لؤلؤ أرمني الأصل، سُبي صغيرًا من #أرمينيا، فاشتراه رجل خياط، ثم انتقل إلى السلطان نور الدين أرسلان شاه الأول من آل زنكي، صاحب #الموصل، كمملوك مجهول الأصل. اشتراه الأمير كأي عبد آخر، وكان مليح الصورة، فحظي عنده وتقدم في دولته.
في البداية، لم يكن لؤلؤ أكثر من خادم مطيع، ينفذ أوامر سيده بصمت. لكنه كان أميًا لا يقرأ الكتب، إلا أنه يقرأ الناس جيدًا؛ يجمع حوله الحكماء والعقلاء ليبدو حكيمًا، ويداري مكره خلف ابتسامة هادئة. في أعماقه كان يختبئ ثعلب ماكر وذئب قاسٍ، ينتظر اللحظة المناسبة ليقلَب الطاولة.
مع مرور الوقت، بدأ لؤلؤ يتسلق سلم السلطة بخطوات مدروسة، حتى نصبه سيده أستاذًا لداره، وصارت الكلمة دائرة عليه. لُقّب بالملك الرحيم والملك المسعود، ألقاب براقة تخفي قلبًا يعشق المؤامرات وسفك الدماء.
عندما أصاب المرض سيده نور الدين، رأى لؤلؤ فرصته الذهبية. أمسك بزمام الأمور من خلف الستار، يدير الدولة كما يحرك الدمية بخيوط رفيعة. وبعد وفاة نور الدين، تولى رعاية ابنه القاصر، الملك القاهر عز الدين مسعود الثاني. لكنه عزله عن العالم، وحاصر حياته حتى مات الفتى صغيرًا. انتشرت الشكوك كالدخان الأسود: هل دس السم في طعامه؟ التاريخ يهمس بالإجابة، لكنه لا يجرؤ على الصراخ.
لم يكتفِ لؤلؤ بحكم الموصل من الظل. نسج تحالفًا مع الخليفة العباسي المستنصر بالله، وزوّج ابنتيه من قادة كبار، وبنى شبكة من المؤامرات للإطاحة بأعدائه من آل زنكي. قضى على نور الدين أرسلان شاه الثاني، ثم على أخيه ناصر الدين محمود، بلا رحمة ولا تردد، حتى أصبحت الموصل ملكه وحده. أخيرًا، منح الخليفة له خلعة السلطنة، فصار اسمه يُردد في الخطب، ووجهه يُنقش على النقود.
طمعه كان كالنار التي لا تشبع. امتدت يده إلى سنجار، طاردًا آخر فلول الزنكيين، ثم إلى نصيبين وماردين، مستغلاً ضعف #السلاجقة وانشغال الأيوبيين بصراعاتهم الدامية.
لكن مع وفاة الخليفة المستنصر عام 640 هـ، وصعود المغول كوحش جائع لا يُروى، بدأت قلاع لؤلؤ تهتز. حاول التملص والتحالف، لكن القدر كان أقوى. عندما طلب #هولاكو منه المنجنيقات والجنود لحصار بغداد، تظاهر بالطاعة، لكنه أرسل مساعدته متأخرة عمدًا، كمن يرمي حجرًا صغيرًا في بحر ثائر.
بعد سقوط بغداد، ركض لؤلؤ مذعورًا إلى همذان، يقبل الأرض أمام هولاكو، يتوسل الرحمة خوفًا على عرشه وحياته، وحمل معه الهدايا الجليلة. استقبله القائد المغولي باحترام ظاهري، مراعيًا كبر سنه، لكنه في قرارة نفسه كان يحتقره. عاد لؤلؤ إلى الموصل مريضًا، مكسورًا، ولم تمضِ أيام حتى لفظ أنفاسه الأخيرة عام 657 هـ (1259 م)، عن ثمانين عامًا قضاها في المكر والطمع.
دُفن في قلعة #الموصل أولاً، ثم نُقلت رفاته إلى مدرسة أسسها ابنه على ضفاف دجلة، تحمل اسم “البدرية”، كشاهد صامت على حياة مليئة بالدم والخيانة.
خلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل، الذي حاول السير على خطى أبيه في خدمة المغول، لكن مصيره كان أسودًا أيضًا. قُتل عام 660 هـ، فكأن السماء انتقمت من مسيرة الأب والابن، مسيرة بنيت على الطمع والمكر، وانهارت كقصر من رمل أمام ريح الزمن.
في أزقة الموصل القديمة، حيث تتسلل رائحة التراب القديم ممزوجة بذكريات الدماء والحروب، يبقى اسم بدر الدين لؤلؤ رمزًا للصعود الماكر والسقوط المرير.









