نقديّة لمقطوعة الشاعرة السّوريّة ميسون أسعد/ اسماعيل آلرجب / العراق

بلاغة الغياب وفلسفة التناقض
قراءة نقديّة لمقطوعة الشاعرة السّوريّة ميسون أسعد
على حافّة البكاء
بقلم الناقد العراقي اسماعيل آلرجب
تقديم:
الشاعرة ميسون أسعد في هذا النص لا ترثي حباً ضائعاً، بل تؤرشف “عظمة انكسارها”. هي تحول “البخل” إلى ميزة في الحب لكي تبرر “سخاءها” المفرط الذي أدى بها إلى حافة البكاء. إنها تمارس “البطولة التراجيدية” في أجلى صورها ، يعد النص نموذجاً فريداً لمقطوعة شعريّة تتسع لكونٍ من الانكسارات. هي لا تكتب عن الفقد، بل ترسم “جغرافيا العدم” ببراعة مذهلة.
القراءة النّقديّة:
1. تبدأ الشاعرة من “مقهى افتراضي”، وهو عتبة نصية ذكية تنزع عن اللقاء صفة المادية. في هذا الفضاء، يبرز انشطار الذات في قولها: “أنا على الكرسي الفارغ مني”. هنا نجد (الحلول وعدمه) في آن واحد؛ فالكرسي موجود جسدياً، لكن الروح غائبة، مما يعكس حالة الاغتراب الوجودي التي تعيشها الأنثى في حضرة الذاكرة.
2. تنتقل الشاعرة إلى ذروة المفارقة في تساؤلها عن طبيعة الحديث بين “امرأة خرساء ورجل أصم”. هذا الاشتغال على تعطيل الحواس هو تكثيف لاستحالة التواصل؛ فالصمت هنا ليس سكوناً، بل هو “ضجيج داخلي” عاجز عن العبور إلى الآخر. هي مفارقة تجعل من “الحديث” فعلاً عدمياً، ومن “اللقاء” عزلة مضاعفة.
3. تستخدم الشاعرة صورة “الرصيفين المتقابلين” لتعميق مأساة الثبات؛ فهما في حالة توازٍ أبدي (لا لقاء ولا افتراق). ثم تنتقل من جمود الرصيف إلى سيولة الزمن في استعارة “الصنبور المعطل”.
أ.لا يمر، بل “يتسرب”.
ب . تحويل العمر إلى “قطرات” يمنح الشعور بالهدر البطيء والموجع، وهو ما يمهد للنتيجة الحتمية في نهاية النص.
ت. تختتم ميسون أسعد نصها بمواجهة حادة بين الأنا والآخر في ميزان الخسارة.
4.ثمّ تكتمل لوحة المفارقات؛ فالحب الذي يُفترض أن يكون نهراً من العطاء، يتحول إلى “بخيل” في كفة الآخر، مقابل “سخاء” مفرط من جانب الذات الشاعرة وصل حد “الاهدار”. النص هنا ينتهي بـ “حافة البكاء”، وهي منطقة برزخية بين الصمت والانفجار، تترك القارئ معلقاً في ذات الفراغ الذي بدأ منه النص.
5. جماليات الأسلوب
أ. النص يخلو من الحشو، كل كلمة هي حجر زاوية في بناء المعنى.
ب. اعتمدت الشاعرة على جمل قصيرة لاهثة تشبه تقطع الأنفاس قبل البكاء.
ت. المزج بين المادي (الكرسي، الصنبور، الرصيف) والمجرد (الذاكرة، النجاة، الإصرار).
6. سيميائيات في محتوى المقطوعة
أ. يرمز المقهى عادةً للّقاء الاجتماعي والحميمية، لكن صفة “الافتراضي” تنزع عنه واقعيته، ليتحول إلى رمز للفراغ والوحشة الرقمية أو الذهنية. هو فضاء “بارد” لا دفء فيه.
ب. يرمز الرّصيفان للتوازي الذي لا يتقاطع. الرصيف سيميائياً هو “طريق العابرين”، واستخدامه هنا يوحي بأن العلاقة ليست “سكناً” بل هي حالة “عبور” مستمرة؛ حيث يظل الآخر مرئياً لكنه غير ملموس، قريباً في المسافة ومستحيلاً في الوصال.
ت. علامة الكرسي الفارغ تدل على “الاغتراب الجسدي”. الشاعرة هنا تحول الجسد إلى أيقونة للغياب؛ فالكرسي (المسند/ الاستقرار) موجود، لكن الأنا (المعنى/ الروح) مفقودة. هذا الانفصال بين الذات ومكانها هو ذروة التشظي.
ج. تجعل الشاعرة طرفي العلاقة “خرساء وأصم”، فهي تعلن سيميائياً عن موت اللغة. الكلمات هنا “إشارات ضوئية” في ليل كفيف، لا تؤدي وظيفتها التواصلية أبداً.
ح. تعطيل الصنبور تعبير عن عجز التحكم في تدفق الحياة. العطل هنا ليس توقفاً، بل هو “سيلان غير منتظم”.
“الزمن المتآكل”. الوقت في النص ليس نهراً متدفقاً، بل هو نزيف بطيء. قطرة قطرة ،هذه العلامة تنقل الإحساس بالهدر والضياع؛ فالعمر لا ينتهي فجأة، بل يتسرب ببطء موجع، مما يعزز صورة “الاحتضار العاطفي”.
خ. تمثل هذه الخاتمة “المربع السيميائي” للصراع بين الأنا والآخر:
أولا. البخل (الآخر): علامة على الانغلاق، الانحباس، والفقر العاطفي.
ثانيا. السخاء (الأنا): علامة على الانفتاح، التضحية، والتبديد.، هذا التقابل يبرز “اللامساواة” في المبادلة العاطفية، حيث يتحول الحب من “عقد مشاركة” إلى “عملية استنزاف” لطرف واحد.
د. سيميائية العنوان (حافة البكاء) ، “الحافة” هي البرزخ بين حالتين (الثبات والانهيار). وهي الرمز الأكثر اثارة للقلق الشاعرة لا تبكي، بل تظل “على الحافة”. هذا الرمز يوحي بحالة من “التوتر الدرامي” المستمر؛ فالبكاء قد يمنح الراحة، أما البقاء على الحافة فهو استمرارية للألم والمعاناة.
7. مميزات يتمتع بها النّص:
أ. إنَّ ما فعلته ميسون أسعد في خاتمة النص يتجاوز حدود الشكوى التقليدية إلى منطقة “التعالي العاطفي”. نحن أمام مشهد مدهش تتجلى فيه الفوارق في أبهى صورها التراجيدية:
ب. المدهش هنا أن الشاعرة لم تَقُل “ما أبخلك” (كشخص)، بل قالت “ما أبخلك أيها الحب”. لقد قامت بـ “تجريد الإساءة”؛ سحبت صفة البخل من “الرجل الأصم” وألصقتها بـ “الحب” كقيمة كلية. هذا الهروب السيميائي يرفع الحبيب من رتبة “المقصر” إلى رتبة “القدر”، وكأنها تمنحه صك غفران أخير عبر لوم “المفهوم” لا “الشخص”.
ت. تصف الشاعرة نفسها بـ “السخاء”، لكنه ليس سخاء البناء، بل هو “سخاء الانتحار”. هي تعترف بأنها “أهدرت” الكثير. الاندهاش النقدي يكمن في هذا الاعتداد بالخسارة؛ إنها تمارس نوعاً من “النرجسية الجريحة”، حيث تتلذذ بكونها الطرف الأكثر احتراقاً. هي لا تبكي لأنها خُذلت، بل تتباهى بأن خذلانها كان “بذخاً” لا يقوى عليه الطرف الآخر.
ث. حين تقول “أتخلى بنية نجاة”، ثم تتبعها بوصف سخائها وبخله، يتحول التخلي من “انسحاب مهزوم” إلى “إعلان تفوق أخلاقي”. الاندهاش يكمن في أن “النجاة” هنا ليست هرباً من الغرق، بل هي نجاة “الصورة المثالية للذات”. هي تتخلى لتظل في ذاكرتها (وفي نصها) هي “الكريمة” وهو “البخيل”.
ث. الفجوة الرقمية (قليل/كثير) تخلق صدمة لدى القارئ؛ فكيف لموازين عاطفية بهذا الاختلال أن تستمر أصلاً؟ الاندهاش النقدي هنا هو اكتشاف أن النص ليس عن “علاقة حب”، بل عن “علاقة الذات بظلّها” وسط فضاء من العدم.
النّص
نصٌ على حافة البكاء
……………………..
في مقهى افتراضي ..
نجلسُ متقابلين ؛
أنا على الكرسي الفارغ مني ،
وأنت في أقصى الذاكرة .
أيُّ حديث ٍ
يجري الآن ؛
بينَ امرأةٍ خرساء
ورجلٍ أصمّ!؟
و…
كرصيفين متقابلين ،
لا نفترق ،
ولا نلتقي !
تتطاول المسافة بيننا
ومن صنبورٍ معطّل
يتسربُ العمرُ
قطرةً …قطرة !
تَبتعد عن سابقِ إصرار ٍ
أتخلّى بنيّة نجاة ،
وما بين قليلك الذي أعطيتْ
و كثيري الذي أهدرتْ
أكتبُ نصاً على حافة البكاء
ما أبخلك أيها الحب….وما أسخاني !
.
ميسون أسعد
سوريا









