قصة قصيرة في الغابة…أحمد إسماعيل إسماعيل / سوريا

قصة قصيرة
في الغابة
كل شيء جائز.. كل شيء في الغابة جائز..
كان الراوي يغمغم بهذا، وهو يتأهب. بعد إلحاحنا الشديد ونزولاً عند رغبتنا، في أن يكمل لنا حكاية الأمس، قال وقد تحلقنا حوله وأحطنا به تماماً:
يا سادة يا كرام، ولما شاهد العصفور حال الغابة، وما صارت إليه من فوضى، وما أصاب سكانها من هلع وذعر، وقد أسلم كل منهم قدميه أو جناحيه للريح، هارباً لا يلوي على شيء، قرر، وقد هاله الأمر وأفزعه أشد الفزع، أن يستفهم عن حقيقة ما يجري هاهنا، وما إن مر به غزال مسرع حتى صاح به:
– هيه… أيها الغزال.. ما الأمر؟
إلا أن الغزال لم يلتفت صوبه، بل اندفع بسرعة أكبر ليختفي بين الأشجار، وما هي إلا لحظات قليلات حتى لاحظ أرنباً مسرعاً يقترب منه، وقد جحظت عيناه من شدة الهلع، فناداه العصفور:
-أنت.. أيها المخلوق الوديع.. ما الأمر؟
ولكن المخلوق الوديع لم يلتفت ناحيته، وعلى الأغلب لم يسمعه، فمر من أمامه مسرعاً كالسهم.
وهكذا مرت بالطائر الحائر حيوانات كثيرة، نادى عليها جميعاً، حاول أن يستوقفها، أن يحدثها ولو للحظات، ليستوضح منها حقيقة ما يجري، بيد أنه لم يلق من أي منها حتى مجرد النظرة العجلى.وبقي الطائر المسكين حائراً مضطرباً، وقد تمزق فكره وتوزع بين أن يبقى هنا حتى يفهم كل شيء، وبين أن يفر كباقي خلق الله، ولا حاجة للفهم، ولكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فظهور حيوان ضخم يسير بإعياء شديد، وهو يدب متجهاً ناحيته، كان كفيلاً بأن يخرجه مما هو فيه من حيرة وقلق، وما إن دنا منه هذا الحيوان، والذي تبين فيه فيلاً هرماً، حتى راح يرفرف فوق رأسه، ثم- وبكل رجاء وتضرع- سأله:
قل لي أيها الفيل. ما الأمر، ما الذي يحدث في الغابة، أرجوك قل. وبصعوبة توقف الفيل، وهو يلتقط أنفاسه المتلاحقة بالكاد من شدة ما أصابه من تعب وخوف، وبعد أن تلفت حواليه مرعوباً، حشرج بصوت مخنوق:
ألم تسمع؟!
ماذا؟! سأل العصفور بلهفة وتعجب.
فرد الفيل:
-لقد أصدر سيد الغابة اليوم فرماناً يقضي بإبادة فصيلة الكلاب. فسأله العصفور مندهشاً:
-ولماذا..؟!
فأجاب الفيل وهو لا يكف عن الالتفات يمنة ويسرة:
-لأنه وحاشيته قد بدؤوا بالتهام العظام أيضاً، وهي كما تعلم من مخصصات الكلاب.
فزقزق الطائر الصغير مؤكداً:
طبعاً، هذا أمر معروف، فلكل فصيلة في الغابة حقها.
فتابع الفيل كلامه، بعد أن أخفض من صوته:
-وهذا ما جعل الكلاب الجائعة ترفع عقيرتها بالنباح فظنها سيد الغابة تمرداً واحتجاجاً على سيادته.
حلق الطائر مرفرفاً حول جسم الفيل مرتين أو ثلاث، تمعن خلالها في كل ملامح وأعضاء هذا الحيوان، ثم حط على خرطومه، وبعد لحظة تأمل غير طويلة سأل محدثه:
-ولكن.. ما دخلك أنت.. فأنت لست كلباً.
ما دخلك أنت.. فأنت لست كلباً، نعم هذا ما قاله الطائر المسكين للفيل. تساءل راوينا بصوت خفيض وهو يهز رأسه وابتسامة مرة وساخرة تعلو ثغره، ثم صمت، وعلى الرغم من أن صمته لم يدم سوى لحظات إلا أننا أحسسنا بثقله وكأنه دام ساعات، فهتف أكثر الحضور حاثاً إياه على إكمال الرواية قائلين:
إيه.. وبعدها؟!
فرفع إلينا وجهه المكتئب ثم ابتسم بخبث وقال:
وبعدها .. وبعد أن سمع الفيل سؤال الطائر الطيب، لم يتمالك نفسه، فأطلق ضحكة مجلجلة خرجت من خلال خرطومه كأنها الصدى لصرخة وحش مجروح، مما جعل العصفور يجفل منها ويفر فزعاً ليحط على غصن شجرة قريبة، وقبل أن يدب الفيل هارباً، علق على سؤال الطائر قائلاً:
يا سلام يا سيدي، إلى أن يعرفوا بأنني لست كلباً، فإنهم –وقتها- سيكونون قد جعلوا من جلدي طبلاً.
بهت العصفور تماماً، أحس بالقلق ريحاً تعصف في صدره، وبضربات قلبه تزداد قوة وشدة، وبذهول وخوف أخذ يتمعن في كل أعضاء جسمه، تفحص ساقيه.. ثم جناحيه وذيله.. ورقبته ومنقاره، ثم تساءل برعب:
هل يعقل أن يشبهوني أنا أيضاً بالكلاب؟!
ولم يطل التفكير كثيراً، لأنه سرعان ما جزم بأن كل شيء في الغابة جائز، فنشر جناحيه، ضرب بهما الهواء، ثم حلق عالياً، عالياً جداً مبتعداً عن المكان وهو يزقزق مردداً في الفضاء:
كل شيء جائز.. كل شيء في الغابة جائز.
وما إن توقف الراوي عن الكلام، بعد أن أنهى حكايته، ثم أنسل من بيننا وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، حتى راح كل واحد منا يحملق في نفسه، ثم في كل من حوله ملياً، ملياً…
النهاية…..
تنويه:
من مجموعتي القصيرة الصادرة سنة 2000 عن جائزة الشارقة للإبداع
أعيد نشرها بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان!!!!!
أي والله حقوق الإنسان؟!









