ظاهرة الاغتراب في الشعر العراقي.بلند الحيدري: تجربة شعرية حداثية في مواجهة الاغتراب والذاكرة المكسورة….بقلم سيد كريم الزاملي

يعدّ بلند الحيدري واحداً من أبرز الأصوات الشعرية التي أسهمت بفاعلية في تشكيل ملامح الحداثة الشعرية في العراق والعالم العربي خلال القرن العشرين. فرغم أن ولادته في بغداد عام 1926 جاءت ضمن بيئة أرستقراطية مريحة، فإن مسار حياته المبكر انطبع بسلسلة من التحولات الصادمة؛ فقدان الأم، انتقالات العائلة، الشعور الدائم بالقلق، والفجوة النفسية التي ستغدو لاحقاً مادة خاماً لقصيدته. هذه التجارب الشخصية، التي تراكمت على هوية شاعر ينتمي إلى أصل كردي في مجتمع مضطرب سياسيًا وثقافيًا، كوّنت الخلفية العميقة لوعيه الفني.
من الناحية الشعرية، يتقدم الحيدري ضمن الجيل المؤسِّس لحركة الشعر الحر، تلك الحركة التي كسرت البنية العمودية التقليدية، وأعادت التفكير في وظيفة الشعر وإيقاعه وصوره. لقد شكّل ديوانه الأول “خفقة الطين” (1946) منعطفاً مبكراً في مسيرة الشعر الحديث، حتى اعتبره الناقد مارون عبود نموذجاً لشعر الشباب الذي كانت بغداد تحلم به. لم يأتِ هذا الاحتفاء من فراغ، فأسلوب الحيدري اتسم بمزاوجة دقيقة بين التجربة الذاتية، بما فيها من قلق وجودي وإحساس شديد بالغربة، وبين الرؤية الإنسانية الأوسع التي تتجاوز حدود الذات إلى أسئلة الحرية والمنفى والبحث عن المعنى.
تتوزع أعماله الشعرية بين محطات عمره المختلفة، ما يكشف تطوراً واضحاً في رؤيته الفنية. فمن “أغاني المدينة الميتة” (1951) إلى “خطوات في الغربة” (1965) و “أغاني الحارس المتعب” (1971) وصولاً إلى “دروب في المنفى” (1996)، يظلّ الموضوع المركزي في هذه التجربة هو الاغتراب بوصفه قدراً إنسانياً، لا مجرد حادثة سياسية أو ظرفاً طارئاً. اللغة عند الحيدري ليست زخرفاً ولا انفعالاً عابراً، بل هي كيان مضغوط، مكثّف، يشتغل على الإيحاء أكثر من التصريح، وعلى الانفعال الداخلي أكثر من البناء البلاغي التقليدي.
سياسياً وثقافياً، دفع الحيدري ثمناً باهظاً لمواقفه ولأصله، خاصة بعد انقلاب شباط 1963، حين تعرّض للتهميش والإقصاء، ما اضطره إلى مغادرة العراق والتنقل بين بيروت ولندن وأثينا. المنفى الطويل لم يكن انقطاعاً عن الكتابة، بل أصبح فضاءً وجودياً يتشكل فيه وعيه الشعري. ولذلك، يظهر المنفى في قصائده لا كخسارة مؤقتة، بل كعلامة ثقيلة على الروح، كجرح بنيوي في هوية الشاعر.
رحل بلند الحيدري في لندن عام 1996 بعد عملية قلب فاشلة، لكنه ترك أثراً لا يزال حاضراً في المشهد الثقافي العربي. فذكر اسمه اليوم ليس استعادة لرمز تاريخي فحسب، بل اعتراف بقيمة شاعر خاض مغامرته الإبداعية بشجاعة، وواجه سلطات الواقع والذاكرة بقصيدة تبحث عن الحرية وتؤمن بأن الحداثة ليست مجرد شكل جديد، بل رؤية وجودية كاملة.
وهكذا، يبقى الحيدري واحداً من الأصوات التي أسست لحداثة شعرية لم تُبنَ على الإلغاء أو القطيعة، بل على مراجعة الذات وتفكيك الوعي وإعادة تشكيل القصيدة بوصفها حواراً مفتوحاً بين الإنسان والعالم. والى قلم اخر من اقلام وطننا العربي الكبير ومشرقنا الإسلامي الواسع كتب في فضاء الحرية.









