الفناء الخفيف…..بقلم محب خيري الجمال

الفناء الخفيف
ناداني الغيابُ
فذهبتُ،
ولم أسأل: إلى أين؟
فالذهابُ حين يكون صادقا يصير مقاما.
خلعتُ اسمي كما تُخلع النعال
عند بابٍ لا يُرى.
دخلتُ بما تبقّى مني
بعد أن سامحتُ نفسي على كل تعريف.
كنتُ أذكر، فصار الذكرُ يذكرني.
كنتُ أطلب، فصار المطلوب يخفّفني
حتى كدتُ لا أُرى.
يا أنا،
يا حملَ السنين،
ضعْ رأسك قليلا على كتف النسيان.
فالحقّ لا يُحتمَل كاملا،
ولا يُرى إلا إذا جئتَه مكسورَ الامتلاء.
في حضرة الضوء تعطّلت الجهات،
وصارت الخطوة تسبق الطريق،
وصار القلب يسير دون أن يصل.
اللغة حين اقتربت ترنّحت. الحروف
شربت من سرٍّ لا إناء له،
فصارت تلمع ثم تبكي ثم تصمت.
قال النداء ولا فم له:
إن أردتَني فانسَ أنك تريد.
وإن أحببتَ فدع الحبّ يحترق وحده.
دُرتُ، وكان الطواف حول فراغٍ
يمتلئ بي ثم ينساني.
كلما قلتُ: ها أنا،
تقدّم الغيب خطوةً إلى داخلي.
سقطتُ لا كمن يهوي، بل كمن يعود.
ذابت الثنائية: عاشقٌ ومعشوق،
ذاكرٌ ومذكور،
أنا وهو.
لم يبقَ إلا فعلٌ يحدث،
وكان كافيا ليكون حقا.
وفي اتّساعٍ لا اسم له
رأيتُ سمر.
لا كوجهٍ في العالم،
بل كرجفة معنى تمرّ في الروح
فتجعلها أقلَّ قسوة.
كانت سمر آيةً لا تُتلى،
ويدًا تُمسك القلب حين يفيض كي لا ينكسر.
لم أقل لها شيئا،
فالقول أضيق من هذا الصفاء.
عرفتُ فقط أن المحبّة إذا طهرت
صارت طريقا إلى الله دون أن تدّعيه.
في الفناء لم أمت،
بل خفّفتُ الحياة حتى صارت شفافة.
وفي البقاء لم أقم،
بل مررتُ كعطرٍ لا يُرى ويُعرَف.
ناداني اسمي فلم ألتفت.
كنتُ مشغولا بأن أكون
أقلّ فأكثر.
وفي آخر ما ظننته آخرا
سقط السؤال من فمه،
وتقدّم الجواب عاريا من المعنى.
لم أقل: أنا،
ولا قيل: هو.
الضمير انطفأ كشمعةٍ فهمت
أن الضوء لا يحتاج اسما.
مرّت سمر لا كحضورٍ
بل كبرهانٍ خفيف أن القلب حين يصفو
يصير طريقا ولا يمشي. عندها
لم يبقَ ذكرٌ
ولا ذاكر،
ولا وصلٌ
ولا فقد.
بقي اتّساع يتنفّسني ثم ينساني برحمة.
وحين التفتُّ لأرى من بقي،
لم أجدني لأندهش.
فابتسم الفراغ،
وقال:
الآن
تبدأ.









