رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الاختراق الثقافي

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في كل المراحل التاريخية السابقة في العراق تم اختراق المجتمع والسياسة لكن فشل الاختراق كلياً في الاختراق الثقافي وحتى في أسوأ مراحل العراق السياسية كانت الاختراقات الثقافية طفيفة وهامشية وفي الاطراف وبدعم من النظم لكنها لم تنجح في اختراق ثقافي حقيقي كما اليوم حيث يستطيع أي نصاب ومحتال أو مقاول أن يخترق عالم الثقافة بلا مقاومة ثقافية.
مثل أية ظاهرة هناك أسباب عن ثبات الثقافة العراقية عدا تصدعات وثغرات في الاطراف لم تمس العمق في النظام السابق وتلاشت، ومن هذه الاسباب امتلاك المجتمع مصدات وقائية من الاختراق الثقافي لا تسمح بالتجاوز حتى نجد الرفض في صفوف البسطاء للطارئ والدخيل.
عندما نتحدث عن الثقافة لا نقصد الادب فحسب وفي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، تُعرّف الثقافة (Culture) على أنها:
“كل مركب معقد يشمل المعارف، المعتقدات، الفنون، الأخلاق، القوانين، العادات، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع”.
حتى التحية وتقاليد الضيافة ودفن الموتى وطقوس الفرح وطريقة الجلوس والمغادرة وغيرها جزء جوهري من الثقافة.
كانت الهوية متجذرة وعميقة وتمتلك مقاومة للاختراق الثقافي سواء من الداخل او الخارج وعلى مستوى النخب يجري حوار بين الثقافات والافكار من بيئات مختلفة وقبولها في الثقافة المحلية العريقة التي تحتمل التنوع وليس الاستسلام التام كما اليوم بعد” تهجين الهوية” واحداث فراغات فيها بضربات مميتة منذ عام 2003 .
اضافة الى الوحدة الاجتماعية ازاء التحديات الخارجية كالاحتلال البريطاني مثلاً حيث حافظ الخطاب الوطني الموحد على قوته بلا” ثقافة التبرير” وعملت رموز ثقافية في الادب والشعر والفن والرسم كصمامات أمان وخلقت مصدات وقائية وأخلاقية ضد التدهور ولم تتشكل طبقة موالية للمحتل ومهجنة التقاليد الا في اطار النخبة الحاكمة وفي قضايا ليست جوهرية كالحفلات والازياء والاكلات والاهتمامات الفنية وغيرها في حين لم تلامس القيم الجوهرية.
كانت المؤسسات نشطة وقوية كاتحاد الادباء الذي كان عصياً على الاختراق عدا حالات محدودة لكنه حافظ على تقاليده الادبية والثقافية وشروط العضوية رغم محاولات النظام السابق تحويل الاتحاد الى مؤسسة ثقافية مسيسة لكن نجاحاته محدودة وضيقة وحتى النخبة الثقافية الحاكمة كانت تحترم القيم الادبية وتحافظ عليها قدر الاماكن وتعاني شرائح منها من قسوة النظام بل ان دائرة الرقابة على الكتب استطاعت تمرير كتب لا تتوافق مع الخط العام للنظام من خلال الالتفاف على شروط النشر والتلاعب النقدي كديوان” دع البلبل يتعجب” الصادر عام 1995 للشاعر المرحوم رعد عبد القادر الذي سبب أزمة للجنة بعد نشره كذلك السماح بدخول بعض الكتاب كرواية” الرجع البعيد” لــــــــــــ فؤاد التكرلي التي كانت هجاءً رمزياً للنظام ورئيسه ورواية” السيد الرئيس” للغواتمالي أنخيل ميغيل أوسترياس التي صودرت واعمال اخرى وحتى في السينما كمنع فيلم زد z جزائري – فرنسي من إخراج المخرج كوستا غافراس وهو الفلم العربي الوحيد الحائز على جائزة أوسكار فئة الأفلام الأجنبية عن الانتفاضة اليونانية ضد انقلاب الجنرالات عام 67 الذي سقط تحت مقاومة ثقافية سلمية ضارية كالاضرابات والاعتصامات والحفلات الوطنية والعصيان المدني .
الاختراقات الكبرى حدثت بعد الاحتلال بسبب تفكيك المؤسسات والانهيار السياسي وتوزع السلطة في الاطراف وغياب المركز الذي صار شكلياً يصلح لادارة بقالية وليس دولة. كما أن توزيع السلطة على أساس طائفي عرقي غيب الهوية الوطنية ولعب الفساد المالي دوراً في اختراق المؤسسات الثقافية كافة وتحول بعضها الى فرص للكسب المالي وحفلات من اجل فواتير مرتبة وفي مهرجان المربد الاخير في البصرة وصل سعر ايجار الغرفة الواحدة الى 200 دولار لليلة الواحدة لادباء عرب نكرات من الدرجة الثالثة غالباً واهمال دعوة كتاب عراقيين عانوا من زمن الدكتاتورية والاحتلال باقدام راسخة وثابتة خارج الاضواء ولم يوظفوا انفسهم عراة في مسرح استعراضي للفرجة في وسائل الاعلام ومارسوا دورهم الثقافي بصمت فلاح وسمو أرملة وحزن يتامى بلا تذمر ولا طلب نجدة ولا ترويج.
كل ما في السياسة ينعكس في الثقافة وحالة الاحتراب السياسي تجد صداها في المؤسسة الثقافية مما يعطل أي رأي أو قرار في القضايا المركزية. لعبت سنوات العزلة والغلق في النظام الدكتاتوري السابق الى انفتاح سريع غير مدروس بلا منظومة ثقافية ترشد وتفلتر مما سهل الاختراق كما ان تدمير المؤسسات الثقافية والتعليمية جعل الاهتمام بالادب والثقافة ترفاً لا يستحق وكانت هذه الثغرة التي تسلل منها النصابون والدخلاء حتى ان بعض هؤلاء تولوا مسؤولية مراكز ثقافية حساسة عند انهيار النسيج الاجتماعي والثقافي وصارت الأبواب مفتوحة للمرة الأولى لـــــــــــــــــ ” نصابي الثقافة” للدخول في الجامعات ودور النشر والاعلام ، وعلى عكس ذلك عزلة المثقف الملتزم وتهميش النخب التي ترفض الانخراط في سوق ثقافي يفتقر لشرط الثقافة كما عرفها التاريخ حتى في المؤسسات الادبية الكبيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock