صفوت عمران يكتب: تركيا المتهم الأول في اغتيال محمد الحداد!!

تبقى الاغتيالات السياسية واحدة من أقدم وأخطر الظواهر في تاريخ الصراعات البشرية، ليست مجرد جريمة قتل، بل هي أداة سياسية تهدف إلى تغيير موازين القوى، إيقاف مسار تاريخي معين، أو بث الرعب في نفوس الخصوم، وغالباً ما يتم التخطيط للاغتيال لتحقيق غايات استراتيجية، منها تغيير نظام الحكم عبر التخلص من رأس الدولة أو العمل على إخماد الثورات الشعبية باستهداف قادة الحراك الشعبي لإضعاف الروح المعنوية للثوار أو تصفية الحسابات الأيديولوجية وقتل الخصوم بسبب اختلاف جذري في التوجهات مثل اغتيال المفكرين أو عرقلة مسار سياسي مثل اغتيال قادة وقعوا اتفاقيات سلام لا ترضى عنها أطراف أخرى..
ومن أشهر الاغتيالات التي غيرت وجه العالم اغتيال يوليوس قيصر، والأرشيدوق فرانس فرديناند، والمهاتما غاندي، وعمر المختار، وتشي جيفارا، وجون كينيدي، ومحمد أنور السادات، وغيرهم كثير، وتطورت طرق الاغتيال من الرمي بالرصاص أو استخدام المتفجرات إلى عصر الاغتيالات التكنولوجية باستخدام الطائرات المسيرة، والأسلحة الموجهة بالأقمار الصناعية، وحتى الهجمات السيبرانية أو السموم الكيميائية المتطورة التي يصعب تعقبها، ويؤكد مراقبون أن الاغتيال نادراً ما يحقق الاستقرار، بل يتسبب في نتائج عكسية تبدأ بالفوضى الأمنية وتصل إلى الحرب الأهلية نتيجة غياب القائد، وفي كثير من الأحداث يتحول الضحية إلى رمز ويمنحه الاغتيال قوة معنوية أكبر مما كان يملكها وهو حي، إلا المخاوف تتصاعد دائماً مما تسببه الاغتيالات من ردود فعل انتقامية ودخول الأطراف المتصارعة في دوامة من العنف المتبادل، ويقول المؤرخون إن الاغتيال السياسي «قد يغير اللاعبين، لكنه نادراً ما يغير اللعبة» أو القواعد الأساسية للصراع، لأن القضايا الكبرى عادة ما تكون أعمق من مجرد فرد واحد.. وهنا نبدأ الحديث عن إغتيال الفريق محمد الحداد…
باختصار ووضوح ودون لف أو دوران .. تعد تركيا أول المتهمين في اغتيال الفريق أول محمد الحداد رئيس أركان حكومة المجلس الرئاسي الليبية «حكومة الدبيبة» والوفد المرافق له إثر تحطم طائرته فوق أنقرة.. فهذا الفعل الذي تم فوق العاصمة العثمانية لا يمكن أن تقوم به إلا تركيا أو دولة ثالثة بموافقة تركيا.. وهو المشهد الذي يمثل صدمة كبيرة للوسط العسكري والسياسي والشعبي في ليبيا.
نعم عزيزي القارئ.. المتابع للمشهد خلال الأشهر الأخيرة سوف يذهب إلى إن تركيا المستفيد الأكبر الذي يقف وراء اغتيال «محمد الحداد» الذي كان يرفض قرار «البرلمان العثماني» الأحادي تمديد تواجد القوات التركية في ليبيا لمدة عامين إضافيين من يناير 2026 إلى يناير 2028، وكان يميل إلى وحدة ليبيا بعد سنوات من الإنقسام منذ 2011، وشارك بفاعلية في اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» برعاية أممية، ولم يُسجَّل له تصريحات إعلامية تصعيدية ضد أي مكون ليبي.. وهو ما اعتبرته أنقرة تهديد لنفوذها في «بلد عمر المختار» وفي منطقة جنوب وشرق البحر المتوسط، فالتواجد التركي في ليبيا يعتمد على استمرار الصراع لا توقفه.. في تمدد الصدام لا انحساره.. في تصاعد الخلافات لا حلها.. وهو المنهج الذي كان يقف محمد الحداد بصوته العاقل وحسه الوطني ضده، بل ويتحرك مع الفرقاء الليبيين من أجل التوافق والاتفاق والوحدة.
لهذا وغيره يعد اغتيال محمد الحداد خسارة استراتيجية كبيرة للشعب الليبي فقد كان يعتبره الكثيرون «رجل التوافق في ليبيا»، وكان يصفه مراقبون بـ«المهندس العسكري للتهدئة»، وكان أحد أبرز القادة العسكريين الذين كسروا حاجز الصمت واذابوا جبال الجليد مع معسكر الشرق بزعامة المشير خليفة حفتر، حيث عقد لقاءات متكررة مع الفريق عبد الرازق الناظوري رئيس أركان قوات القيادة العامة من أجل «بناء جيش ليبي موحد»، وفي نفس الوقت كان يحظى بقبول واسع لدى القوى الدولية الفاعلة في الملف الليبي خاصة أمريكا وإيطاليا وتركيا بوصفه «ممثل شرعي ومعتدل للمؤسسة العسكرية في غرب ليبيا»، ونجح إلى حد كبير في الحفاظ على توازن دقيق بين المجموعات المسلحة في طرابلس وبين التزامات الحكومة الدولية.
الواقع يقول .. الفريق محمد الحداد قتل ومرافقيه وهم: رئيس أركان القوات البرية الفريق ركن الفيتوري غريبيل، ومدير جهاز التصنيع العسكري العميد محمود القطيوي، ومستشار رئيس الأركان محمد العصاوي دياب، والمصور بمكتب إعلام رئيس الأركان العامة محمد عمر أحمد محجوب، بعد 16 دقيقة من اقلاع طائرته من طراز «فالكون 50» وسط أنباء عن رفض أنقرة أن تقوم الطائرة بهبوط اضطراري، وهو ما يخلق دائرة من الشك حول «تركيا» ويعني أن التخلص من الحداد كان أمر مطلوب من «العثماني» حليف الأمس.. وقد زاد تصريح وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا حول طلب طائرة الوفد الليبي الهبوط الاضطراري في منطقة أنقرة لكن انقطع التواصل معها، الشك حول التورط التركي، ما بين أن تكون عبوة ناسفة زرعت في الطائرة التي كانت تحت سيطرة الجانب التركي خلال الزيارة الرسمية للوفد الليبي وبين ما ذهب له مراقبون من أخترق لنظام التشغيل بالطائرة وتعطيل الأجهزة بفعل فاعل وكلمة السر في هذا السيناريو لدى تركيا أيضاً، باعتبارها المسئول الأول عن تأمين الضيف الكبير ومرافقيه… حتى لو ذهب البعض إلى وجود طرف ثالث يريد توريط أنقرة فهذا يضرب أجهزة الأمن التركية في مقتل، ويصعب تصديقه، ويضع ضغوط واسعة على رجال رجب طيب أردوغان من أجل كشفه إن وجد…
الحكاية أن قرار البرلمان التركي الأحادي دون مشاورة الليبيين ببقاء القوات العثمانية جاء مخيباً لامال الجميع في الغرب الليبي الذي يشهد على مدار 6 أشهر إجتماعات لخروج القوات الاجنبية الداعمة للميليشيات المسلحة من اراضيها، اجتماعات شملت حزب الجبهة الوطنية وتحالف القوي الوطنية وتكتل شباب ثوري والتي تعتبر احزاب مناهضة لحزب البناء والتنمية الذراع الحزبي للاخوان المسلمين،. وحزب الوطن الاسلامي المدعومان من الرئيس التركي اردوغان، وتلك القوى فوضت محمد الحداد وقادة الجيش لرفض البقاء فكان قرارهم بالسفر إلى أنقرة وهو ما يبدو أن الموقف لم يعجب تركيا فقررت التخلص من رئيس الأركان ورفاقه.
أنقرة التي تمتلك رصيد سيئ من الخلل الأمني والتخلص من الشخصيات الدولية على أراضيها، تحت قاعدة: «دعه يعمل دعه يمر» باتت فناء خلفي للعمليات القذرة لأجهزة الاستخبارات وباتت سمعتها شديدة السوء.. فقد شهدت من قبل مقتل السفير الروسي في تركيا «أندريه كارلوف» بالرصاص في 2016، ومقتل الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشجقي في 2018، وهو ما دفع مراقبون للتأكيد على أن أنقرة باتت شريك غير مأمون الجانب، يحكمها «خليفة» يخون في أي وقت، وأن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يبدل حلفاؤه كما يبدل ملابسه.. نعم.. يفعل ذلك بسرعة شديدة ومدهشة، والواقع أن حسابات المصالح لدى أنقرة تتغير بسرعة كبيرة وتتبدل مواقفها كل لحظة.. ومن أجل مكاسبها الضيقة باتت دولة غير آمنة، وتغدر بضيوفها وحلفاؤها سواء عبر رصاصة في الرأس أو عبوة ناسفة أو صاروخ موجه.
تركيا التي يرتدي قادتها «ماسك الخلافة الإسلامية» لم يعد أحد يصدق ما تردده من أكاذيب أو ما تقوله من شعارات جوفاء لدغدغة مشاعر الجماهير خاصة سعيها المستمر للتلاعب بنحو 1.8 مليار مسلم، بعدما خسرت معارك ثورة الانترنت والسوشيال ميديا أثناء حرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبات أغلب سكان العالم يعرفون أنها تقيم على أراضيها أكبر قاعدة لحلف الناتو صاحب الرصيد الأكبر في قتل المسلمين حول العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة، وباتت أنقرة أكبر شريك للتحالف الصهيوامريكي خاصة في منطقة الشرق الأوسط حيث تتقاسم معه سوريا وتلعب لصالحه في ليبيا وتخدم عليه في الكثير من الأحداث الإقليمية والدولية، ورغم براعة رجب طيب اردوغان في اللعب على كل الحبال إلا أن «وقوعه على جدور رقبته بات مسألت وقت» وفق الكثير من المراقبين، وباتت الأغلبية تؤكد: «مهما نطق أردوغان بجمل شعبوية لخداع شعبه والمسلمين حول العالم، تفضحه اتفاقاته القذرة في الغرف المغلقة وتحت الطاولة».
نعم عزيزي القارئ.. أنقرة أصبحت أكثر من أي وقت مضى تحتاج إلى تبرئة نفسها من اغتيال اللواء محمد الحداد ومرافقيه وإلا ستكون قواتها في غرب ليبيا في خطر شديد ومصالحها في البلد العربي الشقيق على المحك، وبات ضرورياً عليها كشف ملابسات مقتل الحداد ومن معه وإلا سيكون له تداعيات واسعة على المشهد الليبي.. لذا يمكن القول إن «ليبيا بعد اغتيال الحداد مختلفة عما قبله»، خاصة أنه الرجل القوي الذي أوقف منذ سنوات تقدم قوات خليفة حفتر للسيطرة على كامل التراب الليبي، ورغم ذلك هو نفسه ذاك الرجل الذي راجع مواقفه وبدأ العمل بجدية على التوافق الليبي وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة تنهي الصراع والانقسام الوطني إلا أن يد الغدر لم تمهله وتم التخلص منه.. وهو ما دفع البعض للتأكيد أن الهدف من اغتياله منع وحدة الشعب الليبي وتعطيل إجراء الانتخابات…
القادم مرعب والمشهد يزداد تعقيداً في ليبيا.. والجميع يحبس أنفاسه خوفاً من أن يُحدث رحيل محمد الحداد في هذا التوقيت فوضى غير محسوبة، ووفق مراقبون فإن رحيله قد يفتح باب التنافس بين القيادات العسكرية في الغرب الليبي من أجل خلافته، مما قد يؤدي لتوترات داخلية، ومتوقع أن يتسبب في فراغ كبير داخل المؤسسة العسكرية، خاصة وأن الحادث أدى أيضاً إلى وفاة نائبه المباشر الفريق ركن الفيتوري غريبيل رئيس أركان القوات البرية، وهو ما جعل عملية الخلافة أكثر تعقيداً، ومن أبرز الشخصيات المرشحة لخلافته اللواء صلاح الدين النمروش معاون رئيس الأركان ويمتلك علاقات وثيقة جداً مع تركيا، حيث كان من أبرز المدافعين عن الاتفاقية الأمنية مع أنقرة خلال توليه وزارة الدفاع سابقاً، وتعيينه سيعني استمرار التحالف الإستراتيجي مع تركيا بصبغة أكثر حزماً، وهناك اللواء عبدالباسط مروان آمر منطقة طرابلس العسكرية السابق، وهو شخصية عسكرية قوية ولها نفوذ داخل العاصمة، ويُعرف عنه ميله للحفاظ على توازن القوى، وتربطه علاقات جيدة بأنقرة، لكنه قد يواجه تحديات في القبول لدى القوى السياسية في الشرق مقارنة بالحداد، بينما يراهن البعض على ترقية شخصية من رئاسة أركان القوات الجوية أو البحرية كـ«حل توافقي» مؤقت لتقليل حدة التنافس بين قادة المحاور في مصراتة وطرابلس، وضمان استمرار العمل الفني للمؤسسة، وفي كل الأحوال فإن بديل محمد الحداد إذا نُظر إليه كـ«حليف مطلق لتركيا» قد يؤدي لانسحاب الشرق من مفاوضات توحيد الجيش، وأيضاً سيكون مسؤولاً عن استلام نتائج التحقيق من الجانب التركي، وأي تشكيك في النتائج سيضع القائد الجديد في صدام مبكر إما مع الرأي العام الداخلي في ليبيا أو مع الحليف التركي، ورغم أن أنقرة تفضل النمروش لضمان استقرار استثماراتها العسكرية والسياسية، لكنها تدرك أيضاً أن فرض «شخصية صدامية» قد يفسد جهودها الأخيرة للتقارب مع شرق ليبيا وبنغازي.
ويرى مراقبون أن غياب محمد الحداد قد يؤدي إلى تباطؤ أو جمود في ملف توحيد الجيش، وهو الملف الأهم لاستقرار البلاد، فقد كان الشخصية المنوط بها التنسيق مع الشرق الليبي وقيادة لجان «5+5» .. ورحيله ليس مجرد فقدان لقائد عسكري، بل هو غياب لأحد أهم «صمامات الأمان» التي كانت تمنع الصدام المسلح الشامل وتسعى لطي صفحة الانقسام لذا الأيام القادمة ونتائج فحص الصندوق الأسود ستحدد ما إذا كانت ليبيا ستستمر في مسار التهدئة أم ستدخل في دوامة جديدة من الشكوك والتوتر لكن المؤكد أن من يقف وراء مقتل الحداد لا يريد الخير للأشقاء في ليبيا وسوف يدفع الثمن غالياً.
قد يتسبب اغتيال محمد الحداد في تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا والتي كان مخطط لها أن تكون في 2026، وهو ما جعل المراقبون يصفون الحادث بـ«الزلزال السياسي الذي يضرب خارطة الطريق» حيث أن تعيين صلاح النمروش كرئيس مؤقت لهيئة الأركان يصعب من إجراء الانتخابات فهو على علاقة متوترة مع الشرق الليبي على خلاف الحداد الذي كان يحظى بمرونة وهدوء في التعامل مع معسكر بنغازي، ويُعرف عن «الفريق النمروش» مواقفه الأكثر حدة وصرامة تجاه «القيادة العامة» بقيادة «المشير حفتر»، فإذا شعر معسكر الشرق أن القيادة الجديدة للأركان في الغرب صدامية أو غير منفتحة على التوافقات السابقة، فقد ينسحبون من تفاهمات لجنة «5+5»، وهو ما سيعطل القوانين الانتخابية التي تتطلب توافقاً عسكرياً على الأرض وبيئة أمنية موحدة تضمن حماية صناديق الاقتراع وقبول النتائج.
ويرى خبراء سياسيون أن رحيل الحداد، الذي كان يقود محادثات توحيد الجيش مع الشرق، قد يؤدي إلى تجميد مسار توحيد المؤسسة العسكرية، وبدون جيش موحد أو «غرفة عمليات مشتركة»، سيكون من الصعب جداً إقناع الأطراف الدولية والمحلية بقدرة ليبيا على إجراء انتخابات آمنة في 2026، مما قد يفتح الباب لتأجيل جديد، بل إن
مقتل الحداد في تركيا قد يُستخدم كـ«ورقة سياسية» من قبل المعارضين لـ«حكومةالدبيبة» للتشكيك في قدرتها على حماية قادتها أو في طبيعة علاقاتها الدولية، مما يؤدي إلى تفكك التحالفات الداعمة للانتخابات داخل طرابلس، وقد تتصارع المجموعات المسلحة لفرض نفوذها على البديل الجديد، مما يجعل الاستقرار المطلوب للانتخابات أبعد من أي وقت مضى.
وإذا كان سيناريو تأجيل الانتخابات هو الأقرب حاليا بحجة إعادة ترتيب البيت العسكري قبل الحديث عن صناديق الاقتراع، فإن الأمر قد يتم معالجته بتعيين شخصية توافقية بشكل دائم في رئاسة الأركان غير النمروش، وأن يتم ذلك بضغط القوى الدولية من أجل التسريع من عملية الانتخابات كطريقة وحيدة لإنهاء الانقسام، لذا يبقى السؤال: من الذي سعى للتخلص من الحداد الوسيط العسكري الأهم لتحقيق التوافق الليبي؟! وهل سوف ينجح رئيس الأركان القادم في احتواء قادة المحاور في الغرب، وفتح قنوات اتصال هادئة مع الشرق؟! لأن ذلك هو الذي سيحدد ما إذا كانت انتخابات 2026 ستظل قائمة، أم أن ليبيا ستعود لـ«المربع صفر».. مربع إدارة الصراع بدلاً من حله…الأيام القادمة كاشفة دعونا نترقب ونرى.









