كتاب وشعراء

الفينومينولوجيا والتأويل الثاوي في النصوص….. بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

بين فهم الوجود ووجود الفهم
بقلم: عماد خالد رحمة
لم يكن اشتغال الفكر الفلسفي على النصوص فعلَ قراءةٍ بريئة، ولا ممارسةً لغوية محايدة، بل كان دومًا مغامرةً أنطولوجية تسعى إلى اقتفاء أثر المعنى في تخفّيه، وإلى مساءلة ما يتوارى خلف القول المعلن من طبقات الدلالة والوعي والوجود. فالنص، ولا سيما النصوص الغنوصية وشبه الغنوصية، لا يُعطي نفسه دفعةً واحدة، بل يتمنّع، ويتشظّى، ويستدعي قارئًا يمتلك حسّ الإصغاء لما لا يُقال بقدر ما يُقال. ومن هنا، نشأت الحاجة إلى مناهج قادرة على كشف الثاوي والمضمر، لا عبر الإخضاع القسري للمعنى، بل عبر مرافقة ظهوره في أفق التجربة الإنسانية.
في هذا الإطار، تتبدّى الفينومينولوجيا والهيرمنيوطيقا بوصفهما مسارين فلسفيين متجاورين، لا يتقاطعان مصادفةً، بل يلتقيان في عمق السؤال عن الإنسان بوصفه كائنًا مُنفتحًا على المعنى. لقد سعى إدموند هوسرل، مؤسس علم الظاهريات، إلى إعادة الاعتبار للتجربة الحيّة، داعيًا إلى «العودة إلى الأشياء ذاتها»، لا كما تُشيّئها المناهج الوضعية، بل كما تُعطى في الوعي القَصدي. فالوعي، في التصوّر الفينومينولوجي، ليس وعاءً سلبيًا، بل مجالًا تتجلّى فيه الظواهر بوصفها معاني مُعاشة، يُفهم الوجود من خلالها لا باعتباره معطًى خارجيًا، بل كخبرةٍ تتشكّل في التلازم بين الذات والعالم.
من هذا المنطلق، اشتغلت الفينومينولوجيا على إشكالية فهم الوجود: كيف يظهر الوجود للوعي؟ وكيف يُدرَك بوصفه معنى قبل أن يكون موضوعًا؟ غير أنّ هذا المسعى، على عمقه، ظلّ مشدودًا إلى سؤال التأسيس، وإلى أفقٍ يبحث عن بنيةٍ أولى للمعنى. وهنا تحديدًا، يتدخّل فنّ التأويل، لا ليهدم هذا الأفق، بل ليكشف حدوده، ويفتحه على تاريخية الفهم وزمنيته.
لقد نقل هانس-جورج غادامير التأويل من كونه تقنيةً لفهم النصوص إلى كونه فلسفةً للفهم ذاته. فالفهم، في نظره، ليس فعلًا ذاتيًا تمارسه ذاتٌ سيّدة على نصٍّ صامت، بل حدث وجودي يقع في فضاء الحوار بين الأفقين: أفق النص وأفق القارئ. وبهذا المعنى، يصبح السؤال المركزي ليس: كيف نفهم النص؟ بل: كيف يوجد الفهم؟ وكيف يكون الفهم نفسه نمطًا من أنماط الوجود في العالم؟
إن وجود الفهم، كما يتجلّى في الهرمينوطيقا الفلسفية، لا ينفصل عن اللغة والتاريخ والتقليد. فالفهم ليس قفزةً خارج الزمن، ولا تحرّرًا وهميًا من الأحكام المسبقة، بل انخراط واعٍ في سيرورة تاريخية تشكّلنا بقدر ما نشكّلها. ومن هنا، تتحوّل الأحكام المسبقة من عائقٍ معرفي إلى شرطٍ أنطولوجي لإمكان الفهم، لأن الكائن الإنساني لا يقف خارج تاريخه، بل يفهم انطلاقًا منه.
وعند هذا الحدّ، يتّضح التقاطع العميق بين الفينومينولوجيا والتأويل: فكلتاهما تنظران إلى الفهم بوصفه تجربةً معيشة، لا عمليةً ذهنية مجردة. غير أنّ التأويل يذهب أبعد، إذ لا يكتفي بوصف كيفية ظهور المعنى في الوعي، بل يسائل كينونة الفهم نفسها، باعتبارها انفتاحًا دائمًا للكائن على ذاته وعلى الوجود الكلي. فالفهم، هنا، ليس امتلاكًا للمعنى، بل مشاركةٌ فيه، ولا يُغلق على يقين نهائي، بل يظلّ في حركة سؤال لا تنتهي.
وإذا التفتنا إلى التراث الإسلامي، وجدنا أن هذا الوعي التأويلي لم يكن غريبًا عن فقهاء التفسير الكبار، وإن لم يُصغ بالاصطلاحات الفلسفية الحديثة. فالطبري، والقرطبي، والبغوي، والماوردي، والألوسي، مارسوا قراءةً مركّبة للنص القرآني، راعت السياق، وتعدّد الدلالات، وتاريخية الفهم، وخصوصية اللغة. لقد أدرك هؤلاء أن النص ليس كيانًا مغلقًا، وأن المعنى يتولّد في جدلٍ حيّ بين اللفظ والمقصد، وبين النص والواقع، وبين الثابت والمتغيّر.
من هنا، يمكن القول إن الفينومينولوجيا والهيرمنيوطيقا ليستا قطيعةً مع التراث، بل امتدادًا نقديًا لوعيٍ إنساني قديم بسؤال المعنى. فبين فهم الوجود كما تسعى إليه الفينومينولوجيا، ووجود الفهم كما تؤكّده الهرمينوطيقا، يتشكّل النص بوصفه فضاءً مفتوحًا، لا يُستنفد، ولا يُختزل في قراءة واحدة.
إن النص، في هذا الأفق، ليس مجرد حامل للمعنى، بل حدثٌ وجودي؛ وكل قراءة صادقة له هي إعادة تشكّل للذات القارئة، بقدر ما هي كشفٌ لطبقة جديدة من الدلالة. وهكذا، يغدو التأويل ممارسةً أنطولوجية، لا تُراكم المعاني فحسب، بل تُعيد صياغة علاقتنا بالوجود، وبأنفسنا، وبالعالم.
وبذلك، لا تعود الفينومينولوجيا علمًا للظواهر فقط، ولا التأويل فنًا لشرح النصوص، بل يصبحان معًا دربًا فلسفيًا واحدًا، يسعى إلى إنقاذ المعنى من التشييء، وإعادة الإنسان إلى موقعه الأصلي: ككائن يفهم لأنه يوجد، ويوجد لأنه منفتح أبدًا على إمكان الفهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock