كتاب وشعراء

تخييل حياة نوخذة الطرف في الكويت …..بقلم محمد الداهي

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

اعتاد الطالب الرفاعي في مشاريعه الروائية تجريبَ الأشكال إسهاما منه برفقة كتاب كويتيين آخرين على تطوير السرد الكويتي من جهة، وسعيا إلى حكاية القصة في قالب فني يستجيب للتوقعات المنشودة، ويتمثل الواقع بطرائق فنية من جهة ثانية. ما يلفت النظر في تجربته أنه يعد من الروائيين العرب (غالب هلسا، أحمد المديني، محمد برادة، عبد القادر الشاوي) الذين تبنوا “التخييل الذاتي”Autofiction بالمعنى الحصري في أعمالهم الروائية؛ وهو ما يتجلى في معظم رواياته (“ظل الشمس” 1998، “الثوب” 2009، “رائحة البحر”2002، “سمر كلمات” 2006، “في الهنا” 2014، ” خطف الحبيب” 2022)،

تخييل الحياة

ارتأى في عمله (دوخي تقاسيم الصبا،ط2، 2025) أن يراهن على شكل جديد في الكتابة الروائية بسرد قصة فنان ومطرب كويتي تطلعا إلى إعادة الاعتبار إليه باستعادة مساره في الحياة بالتركيز على مقاومته شظف العيش وصروف الدهر، وإثبات اسمه في الطرب والغناء عن جدارة واستحقاق، وإصابته بمرض عضال إلى أن أسلم الروح إلى بارئها.

يأتي هذا العمل الروائي لتكريس فن التراجم الذي يعد من مفاخر العرب ومآثرهم منذ القدم إلى الوقت الحالي، ولمواكبة انتعاش الأشكال السيرية(Formes biographiques) وتجددها في إطار ما يصطلح عليه بالتخييل الخارجي (Exofiction) أو تخييل الحياة (Biofiction) استجابةً لبواعث فنية (الكشف عن المناطق العتمة والداجية في حياة المترجم له، واستيضاح شفافيته الداخلية وأحلامه وتطلعاته المغفية، وتخييل عيِّناته السيرذاتية وإعادة تأويلها وفق منظور وفلسفة جديدين) أو توثيقية(التحري في حياته باعتماد الدعامات المناسبة؛ من شهادات، ووثائق شخصية، وأوراق ثبوتية، ومسودات..الخ).

اعتمد السارد- فضلا عن التقديم باسم ابن الفنان الراحل باسم عوض دوخي، والتذييل لشرح الألفاظ العامية والمفردات البحرية والموسيقية، وتوضيح أسماء الأعلام) على تقنية التناوب بسرد قصتين متكاملتين ومتشابكتين يتبادلان الأدوار فيما بينهما لإضاءة حياة المترجم له (عوض دوخي) من زوايا ورؤيات مختلفة، كما عمد إلى الإخراج الطِّباعيِّ للتمييز بينهما سعيا إلى تيسير المقروئية على المتلقي من جهة، وتوكيد الطابع التلفظي أو الصبغة الذاتية في سرد كل قصة على حدة من جهة ثانية.

الليلة الأخيرة من حياة عوض

يشغل موضوع احتضار عوض دوخي (صوت الكويت الأجمل) حيزا في المحكي-الإطار الذي يستوعب في فلكه مختلف القصص المتناسلة والمتشظية حرصا على الإلمام بحياته ونفسيته من جوانب متعددة. وردت أطوار المحكي-الإطار بحروف مضغوطة، وفي هيئة يومية (17 ديسيمبر 1979) مفعمة بالزمن النفسي، وبطيئة في وتيرتها برصد ما وقع في بيت المترجم له من مشاورات واضطرابات وهواجس على مدى دقائق متتالية بحثا عن حل مناسب لإسعافه وإنقاذ حياته.

تداخلت الأصوات (البكاء، الصراخ، الشكوى، تلاوة القرآن) في البيت، لكنها لم تستطع أن تقهر دوي الريح التي كانت تعصف في الخارج محدثة دويا في الأذان. استُدعي الطبيب على وجه السرعة لمعانية حال المريض الذي قضى ثلاثة أسابيع في مستشفى بلندن. كان يتنفس بالكاد وهو يلقي نظرة على السقف. ساءت أحواله خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، ومع ذلك كان يرفض نقله إلى المستشفى من جديد. نصح الطبيب أهله بنقله إلى غرفة العناية المركزة إن اقتضى الأمر ذلك، وإن كان يؤثر أن يمكث في بيته بدعوى أن المستشفى لن ينفعه في أي شيء.

يتغلغل السارد في طوية المريض لنقل ما يجول فيها من هواجس وأفكار وحوارات داخلية، وإبراز مدى تألمه من مداهمة المرض لجسده دون غيره من الناس، وتحسره على أيامه الماضية وتدهور وضعه الصحي، واستحضار ذكريات عمره في ليلة واحدة، وإعجابه بصوت المقرئ الحاج محمود عبد الوهاب لعله يضمد روحه المنهكة، ويقاوم ضعفه وانكساره، ومحاورة صاحبه وقرينه ليؤانسه ويؤازره في السراء والضراء، ويتماهى معه كما لو كانا جسدا واحدا، ويشاركه التلفظ بالشهادتين قبل أن يرحل إلى الأبد.

مسار حافل بالتجارب والمفاجآت

-يستحضر السارد – بالخط العادي في المحكي المؤطر- علاقته بعوض منذ ميعة الطفولة والشباب في حي ” فريج الطبة”. ومما يتذكره رغم مضي عقود من الزمن هو معاينة ولادته إلى أن قامت الولادة بقطع حبل السُّرَّة بمقص. مات والده وتركه يتيما برفقة إخوانه ودون معيل؛ فاضطر منذ حداثة سنه إلى البحث عن عمل لمؤازرة أسرته المعدمة. انضم إلى طاقم النوخذة عبد الرحمن بن عثمان مكلفا لحمل الماء إلى البحارة، ومساعدة الغواصين على الصعود فوف الماء بحبل كلما أشعر بذلك، ونقل البضائع. عندما ناهز الرابع عشرة من عمره، رحلت أمه إلى حي جديد ( فريج الشويخ) وسط مدينة الكويت، وتعرَّفَ إلى طفل مولع بالموسيقى اسمه سلطان أحمد سالمين. توافقا معا على شراء العود والتناوب عليه للتدرب على العزف والدندنة. كانت أول أغنية عزفها لمحمد عبد المطلب ” يا حبيبي ليه كتر جفاك”، ثم أصبح في أوساط أطفال وشباب من مقتبل العمر يؤدي أغاني بصوت محمد فارس، وبصوت ضاحي بن وليد، ويقلد صوت أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب.

أعجب المجدّمي يوسف بن يعقوب بصوته، وكلفه مطربا على سفينته للترفيه على البحارة. تألق اسمه بمرور الأيام، وأضحى رائجا بين التجار والنواخذة والمجدمية والبحارة بصفته مغنيا بارعا. حينما شعر بتطور موهبته وإعجاب الناس بأدائه الغنائي والموسيقي، قر عزمه على تسجيل أول أغنية بتفقد شركة ” طه فون”. لم تكن البداية ميسرة كما اعتقد، وهو ما جعله يستشير أحمد الزنجباري ويستعين بخبرته، ويستنير بملاحظاته، ويتحفز بتشجيعه. أتاح له فرصة الغناء على أمواج “إذاعة شيرين” آخذا بنصيحته “غن على طبيعتك، لا تتعجل، صوتك حنون !” (ص.154)، ومستعينا بأخيه يوسف الذي صاحبه في الأداء بالعزف على الإيقاع.

تألق نجم عوض في الطرب

لازمته عبارة ” الغناء لا يطعم خبزا”، وأثرت سلبا في معنوياته ومطامحه، خاصة بعدما تغيرت معالم الكويت باكتشاف النفط، وبحصول تحولات في الحياة العامة؛ من ضمنها تراجع عدد المغنين والمطربين (النهامين). ومع ذلك لم يفقد الأمل بالبحث عن عمل مناسب( الإطفائي، ثم عامل في المخازن، ثم عامل في البلدية، ثم مطرب في وزارة الإعلام الكويتية) يلبي حاجاته، ويسعفه على مغالبة تكاليف الحياة، وينمي قدراته على العزف بالعود والغناء.

عندما شعر بالاستقرار نسبيا زاد نهمه على القراءة، والعزف، والغناء، وأصبح يداوم الاستماع إلى المطربين المفضلين لديه، ويتمرن يوميا على العود والغناء. ومن إرهاصات نجاحه في الحياة أن أغنيته ” يا من هواه أعزه وأذلني” تركت صدى طيبا في نفوس أهل الكويت، وصار اسمه بمقتضاها ينتقل من بيت إلى آخر، ومن ديوان إلى آخر. عندما أدى أغنية ” قل للمليحة” أصبح يأخذ مكافأة مطرب وملحن ومحفظ، ثم غدا مطلوبا في الإذاعة ، والحفلات ، ومجالس الطرب، ويتلقى دعوات من خارج الكويت للمشاركة في الأسمار والسهرات الغنائية تقديرا لأدائه وتنويها به. راودته -مع الزمن- فكرةُ تطوير الأغنية التراثية الكويتية برفقة أخيه يوسف، وبعناية أساتذة الموسيقى نجيب رزق، ورضا غنيمة، وأحمد الزنجباري.

حظيت جملة من أغانيه بشهرة فائقة داخل الكويت وخارجها؛ وفي مقدمتها أغنية “يا من هواه أعزه وأذلني” وأغنية “صوت السهاري”، فسارت به الركبان. أدى أغنية من أغانيه في بيته بالقاهرة على مسامع رياض السنباطي، وما أن توقف عن الغناء حتى فاجأه السنباطي بهذه العبارة : “آه من حزن مقام الصبا” ص.237. وفعلا استوحى عوض دوخي موضوع الأغنية من تألمه لحال أحد أصدقائه. بمرور الأيام زادت أنشطته، وتألق اسمه، وتحسنت مداخله، فكان يتفقد بين الفينة والأخرى السوق ليساعد الفقراء، ويجود عليهم بفضله وكرمه. أجبره المرض على إجراء الفحوصات الطبية، والخضوع للعلاج في مستشفى الصباح، ثم في مستشفى بلندن بعناية سمو ولي العهد الشيخ جابر الأحمد ورعايته. وهو يتعافى لم يجد بدا من ممارسة الغناء، وتسجيل الأغنية الأخيرة (يا واحد الحسن) في مبنى الإذاعة والتلفزيون، والمشاركة في فيلم (سامر من الغوص) بأداء دور النواخذة، وزيارة البحرين حفظا وتقديرا لود أهلها عام 1973.

السمات الفنية البارزة

يتضح أن الروائي لم يراهن على سرد سيرة عوض دوخي، بل سعى إلى تمثيلها في قالب روائي يصطلح عليه بـ”تخييل الحياة”. ما يميز بين السِّجليْن هو أن السيرة تمتثل -بحسب فيلبيب لوجون- إلى المشابهة بالضرب على منوال النموذج (الحرص على استيفاء شروط الواقع بالتدقيق في المعلومات، والتحري فيها)، في حين يتحرر” تخييل الحياة ” من قيد النموذج بالتوفيق بين الواقعي (الاستعانة بالدعامات الشخصية للمترجم له) والتخييلي ( إطلاق العنان للخيال والاستيهام لتحويل المترجم له إلى شخصية روائية).

يتسم المحكي-الإطار بالتقرير والتشظي لمواكبة الحالة الصحية للمترجم له في الليلة الأخيرة من حياته، وبالتركيز على ما وقع له في دقائق متتالية قبل أن تزهق روحه. في حين تهيمن الشفافية الداخلية على المحكي المؤطر (الاستبطان، التداعي، المنولوج المسرود، المنولوج المنقول، السرد النفسي) بحرص السارد على التقنع بقناع المترجم له، والتحدث باسمه لنقل مشاعره وخواطره وأفكاره، وتقمص دوره على الوجه الأكمل. وهكذا، قد لا يشعر القارئ بهذه الازدواجية أو الثنائية الصوتية لأنها حُبكتْ بطريقة فنية يتغلب على إثرها صوتُ المترجم له على صوت السارد تلفُّظيَّاً (ضمير المتكلم يحيل إليه) ودلاليا (كل ما يسرد عنه يمت بصله إلى تجربته في الحياة).

تعمل الرواية- علاوة على عنايتها بالذاكرة الشخصية أو الذاكرة الحية المتمثلة في رمز من رموز الأغنية الكويتية المعاصرة)- على تأثيث الذاكرة الجماعية بإبراز التحولات الاجتماعية والعمرانية التي وقعت في الكويت بعد اكتشاف البترول. كان مصدر عيش الكويتيين من قبل متوقفا على ممارسة التجارة شتاء، ثم البحث عن اللؤلؤ صيفا بالغوص في أعماق البحار. لكن حياتهم تغيرت جذريا وتيسرت أمورها بفضل موارد البترول ومداخله؛ ما أدى إلى توقف عمل المطربين والمغنين على متن سفن الغوص، وفي أحواش البيوت، واضطرار كثير من الأسر- بفضل تحسن مستواها المعيشي- إلى التخلي عن منازلها القديمة في مناطق “شرق” و”جبلة” و”المرقاب” والاستقرار في المناطق الجديدة خارج الأسوار,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock