رؤي ومقالات

د.حسن العاصي يكتب :الاستيطان المستتر: تفكيك الجغرافيا وإعادة تشكيل المكان الفلسطيني عبر المستوطنات

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

منذ عقود طويلة، ظلّت القضية الفلسطينية تتصدّر المشهد الدولي بوصفها واحدة من أعقد النزاعات في العالم، حيث تتداخل فيها الأبعاد العسكرية، والسياسية، والإنسانية، والقانونية. وإذا كانت صور القصف والدمار في غزة، واعتقالات الفلسطينيين في الضفة الغربية، والاغتيالات التي تطال القيادات والنشطاء، هي ما يملأ شاشات الأخبار ويشدّ انتباه الرأي العام، فإن هناك مساراً آخر يجري بصمت، بعيداً عن الأضواء، لكنه لا يقل خطورة عن الحرب المفتوحة، بل ربما يفوقها أثراً على مستقبل الأرض والإنسان الفلسطيني. هذا المسار هو سياسة مصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية، التي تُنفّذ بشكل تدريجي ومنهجي، تحت غطاء تشريعات داخلية إسرائيلية، وبحماية مباشرة من الجيش، في مخالفة صارخة للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية تجاوز اليوم 700 ألف مستوطن، موزعين على أكثر من 279 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وهو رقم تضاعف عدة مرات منذ اتفاقيات أوسلو في التسعينيات. هذه المستوطنات لا تُبنى في فراغ، بل على حساب أراضٍ فلسطينية مصادرة، تُقتطع قطعة بعد قطعة، لتتحول القرى والمدن الفلسطينية إلى جزر معزولة محاطة بالمستوطنات والطرق الالتفافية، في مشهد يهدد عملياً إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة.

القوانين الإسرائيلية الداخلية، مثل “قانون تنظيم المستوطنات” لعام 2017، شرّعت عملياً الاستيلاء على أراضٍ خاصة يملكها فلسطينيون، ومنحت غطاءً قانونياً للبؤر الاستيطانية غير المرخّصة سابقاً. هذا القانون، إلى جانب سياسات “أراضي الدولة” التي تُعلن بموجبها مساحات واسعة من الضفة الغربية كأراضٍ تابعة للدولة الإسرائيلية، مكّن من تحويل آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية الفلسطينية إلى مشاريع استيطانية جديدة. ووفق بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، فقد خسر الفلسطينيون خلال العقدين الأخيرين عشرات آلاف الهكتارات من أراضيهم، فيما ارتفعت وتيرة البناء الاستيطاني بنسبة تفوق 20% سنوياً في بعض المناطق الحساسة مثل محيط القدس والخليل ونابلس.

الأثر المباشر لهذه السياسات يتجلى في حياة المزارعين الفلسطينيين الذين يُحرمون من الوصول إلى أراضيهم، ويواجهون اعتداءات يومية من المستوطنين تحت حماية الجيش الإسرائيلي. تقارير منظمات حقوقية مثل “بتسيلم” و”هيومن رايتس ووتش” وثّقت مئات الحالات التي تعرّض فيها المزارعون للضرب، أو اقتلاع أشجار الزيتون، أو منعهم من جني محاصيلهم، في محاولة منهجية لاقتلاعهم من أرضهم ودفعهم إلى الهجرة القسرية.

إن ما يحدث ليس مجرد توسع عمراني أو نزاع على ملكية أراضٍ، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى تفكيك الجغرافيا الفلسطينية وتحويل المدن والقرى إلى جزر معزولة، محاطة بالمستوطنات والطرق الالتفافية، بحيث يصبح من الصعب تصور قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. هي إستراتيجية سياسية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا في فلسطين التاريخية، بحيث يصبح الوجود الفلسطيني محاصراً ومفتتاً، وتغدو فكرة الدولة الفلسطينية مجرد وهم. وبينما ينشغل العالم بمشاهد الحرب في غزة، يجري في الضفة الغربية والقدس مسار “صامت” قد يؤدي في النهاية إلى محو الهوية المكانية الفلسطينية بالكامل، لنصحو يوماً على واقع لا نجد فيه مدينة فلسطينية واحدة متماسكة، ولا قرية قائمة بذاتها، بل مجرد تجمعات صغيرة محاصرة وسط بحر من المستوطنات.

البعد التاريخي للاستيطان في فلسطين

منذ بدايات المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، ارتبطت فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بمفهوم الاستيطان. الحركة الصهيونية التي نشأت في أوروبا اعتمدت على مقولة شهيرة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وهي مقولة شكلت الأساس الأيديولوجي لتبرير الهجرة المنظمة إلى فلسطين، رغم أن الأرض كانت مأهولة بشعبها الفلسطيني منذ قرون طويلة.

مع الانتداب البريطاني على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت موجات الهجرة اليهودية تتزايد بشكل ملحوظ. ففي الفترة بين عامي 1920 و1947 وصل إلى فلسطين أكثر من نصف مليون مهاجر يهودي، بدعم مباشر من سلطات الانتداب التي وفرت لهم الأراضي والغطاء القانوني. هذه الهجرات أسست البنية الأولى للمستوطنات الزراعية والصناعية التي شكلت لاحقاً قاعدة الدولة الإسرائيلية.

عام 1948 كان نقطة التحول الكبرى، حيث أعلنت إسرائيل قيامها على أنقاض أكثر من 500 قرية فلسطينية دمرت أو أُفرغت من سكانها خلال النكبة، فيما شُرّد نحو 750 ألف فلسطيني خارج ديارهم. منذ ذلك التاريخ، لم يتوقف التوسع الاستيطاني، بل اتخذ أشكالاً جديدة مع كل مرحلة من مراحل الصراع.

بعد حرب 1967 واحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، دخل الاستيطان مرحلة أكثر تنظيماً. إسرائيل بدأت ببناء مستوطنات دائمة في الأراضي المحتلة، واعتبرت هذه الأراضي “قابلة للتصرف” وفق قوانينها الداخلية. في غضون سنوات قليلة، ظهرت عشرات المستوطنات في الضفة الغربية، خاصة حول القدس والخليل ونابلس، بهدف خلق واقع ديموغرافي جديد يغير طبيعة الأرض ويصعّب أي انسحاب مستقبلي.

بحسب مركز الأبحاث الفلسطيني، تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية بشكل متسارع منذ السبعينيات. ففي عام 1972 كان عددهم لا يتجاوز 1,500 مستوطن، بينما وصل في منتصف الثمانينيات إلى نحو 50 ألفاً، ثم قفز إلى أكثر من 200 ألف بحلول منتصف التسعينيات. اليوم، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن العدد تجاوز 700 ألف مستوطن موزعين على 279 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وهو رقم يعكس حجم التوسع المستمر رغم الإدانات الدولية.

هذا التوسع لم يكن عشوائياً، بل جاء وفق خطط مدروسة. إسرائيل اعتمدت سياسة “الأطواق الاستيطانية” حول المدن الفلسطينية الكبرى، مثل القدس ورام الله ونابلس، بحيث تُحاصر هذه المدن بمستوطنات وطرق التفافية، ما يؤدي إلى تقطيع أوصال الجغرافيا الفلسطينية وتحويلها إلى كانتونات معزولة. كما أن بناء الجدار العازل منذ عام 2002 أضاف بعداً جديداً للاستيطان، حيث ضم فعلياً مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية إلى الجانب الإسرائيلي، وحرم آلاف الفلسطينيين من أراضيهم الزراعية.

إذن، البعد التاريخي للاستيطان ليس مجرد خلفية، بل هو مسار متواصل منذ أكثر من قرن، بدأ بالهجرة المنظمة، مروراً بالنكبة، ثم الاحتلال عام 1967، وصولاً إلى التوسع القانوني والتشريعي في العقود الأخيرة. الأرقام والإحصاءات تكشف أن الاستيطان لم يكن يوماً ظاهرة هامشية، بل هو جوهر المشروع الإسرائيلي، وأداة أساسية لإعادة تشكيل الأرض والهوية في فلسطين.

الأطر القانونية والتشريعية للاستيطان

إذا كان الاستيطان في بداياته قد اعتمد على الهجرة المنظمة والدعم السياسي من القوى الاستعمارية، فإن المرحلة اللاحقة اتخذت طابعاً أكثر مؤسساتية، حيث وفرت الدولة الإسرائيلية منظومة قانونية وتشريعية متكاملة لتبرير التوسع الاستيطاني وإضفاء شرعية داخلية عليه، رغم مخالفته الصريحة للقانون الدولي. هذه الأطر القانونية لم تكن مجرد نصوص جامدة، بل أدوات فاعلة لتغيير الواقع على الأرض، وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى مساحات قابلة للمصادرة والبناء الاستيطاني.

من أبرز هذه الأطر ما يُعرف بسياسة “أراضي الدولة”. منذ عام 1979، بدأت السلطات الإسرائيلية بإعلان مساحات واسعة من الضفة الغربية كأراضٍ تابعة للدولة، استناداً إلى تفسير خاص للقوانين العثمانية القديمة التي كانت سارية قبل الانتداب البريطاني. هذا التفسير سمح باعتبار الأراضي غير المزروعة أو غير المسجلة رسمياً ملكاً للدولة، وبالتالي قابلة للتخصيص لصالح المستوطنات. ووفق تقارير منظمات حقوقية، فإن هذه السياسة أدت إلى مصادرة أكثر من 900 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية، أي ما يقارب 16% من مساحتها.

إلى جانب ذلك، جاء “قانون تنظيم المستوطنات” الذي أقره الكنيست الإسرائيلي عام 2017 ليشكل نقطة تحول خطيرة. هذا القانون منح غطاءً قانونياً للبؤر الاستيطانية التي كانت تُعتبر غير مرخصة حتى وفق القانون الإسرائيلي نفسه، وسمح بمصادرة أراضٍ خاصة يملكها فلسطينيون إذا بُنيت عليها مستوطنات أو بؤر استيطانية. القانون أثار موجة واسعة من الانتقادات الدولية، حيث اعتبرته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي خطوة نحو شرعنة الاستيطان بشكل كامل، في مخالفة لقرار مجلس الأمن رقم 2334 لعام 2016 الذي أكد أن المستوطنات “ليس لها أي شرعية قانونية وتشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي”.

كما أن المحاكم الإسرائيلية لعبت دوراً محورياً في تكريس هذه السياسات. المحكمة العليا الإسرائيلية، التي يُفترض أن تكون حامية للحقوق، أصدرت في عدة مناسبات قرارات تسمح بمصادرة أراضٍ فلسطينية بذريعة “الضرورة الأمنية” أو “المصلحة العامة”، وهي مصطلحات فضفاضة تُستخدم لتبرير التوسع الاستيطاني. على سبيل المثال، في قضية مستوطنة “بيت إيل”، أقرّت المحكمة مصادرة أراضٍ خاصة رغم اعترافها بملكية الفلسطينيين لها، بحجة أن المستوطنين بنوا عليها منذ سنوات وأن إخلاءهم سيشكل “ضرراً كبيراً”.

القوانين الإسرائيلية الداخلية تتناقض بشكل مباشر مع القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على القوة المحتلة نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. كما تتعارض مع قرارات مجلس الأمن المتكررة، بدءاً من القرار 242 لعام 1967 الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وصولاً إلى القرار 2334 لعام 2016 الذي شدد على عدم شرعية المستوطنات. ومع ذلك، فإن إسرائيل تستمر في استخدام منظومتها القانونية الداخلية كأداة لتجاوز هذه الالتزامات الدولية.

الأثر العملي لهذه الأطر القانونية هو خلق واقع جديد على الأرض: مستوطنات محمية بالقانون الإسرائيلي، أراضٍ فلسطينية مصادرة بقرارات رسمية، ومزارعون محرومون من أراضيهم بحكم قضائي. هذا الواقع يجعل من الصعب على الفلسطينيين الدفاع عن حقوقهم، إذ يجدون أنفسهم أمام منظومة قانونية لا تعترف بملكيتهم، ومحاكم لا تنصفهم، وحكومة تسن القوانين لتسهيل الاستيطان لا لوقفه.

إن المحور القانوني يكشف أن الاستيطان ليس مجرد فعل ميداني، بل هو مشروع سياسي مؤسس على تشريعات وقوانين، تُستخدم لتغيير الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية بشكل ممنهج. وهذا ما يجعل الاستيطان أخطر من الحرب العسكرية، لأنه يُنفّذ ببطء، تحت غطاء قانوني، وبصورة يصعب على المجتمع الدولي مواجهتها إلا عبر الضغط السياسي والدبلوماسي.

الأبعاد الديموغرافية والجغرافية للاستيطان

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يكن مجرد بناء وحدات سكنية جديدة، بل هو مشروع شامل لإعادة تشكيل الخريطة السكانية والجغرافية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. هذا البعد هو الأكثر وضوحاً في نتائجه اليومية، لأنه يترجم مباشرة إلى واقع يعيشه الفلسطينيون على الأرض، حيث تتحول مدنهم وقراهم إلى جزر معزولة وسط بحر من المستوطنات والطرق الالتفافية والجدار العازل.

من الناحية الديموغرافية، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية تجاوز 700 ألف مستوطن حتى عام 2024، موزعين على أكثر من 279 مستوطنة وبؤرة استيطانية. هذا الرقم يعكس تضاعفاً هائلاً مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ثلاثة عقود، حيث لم يتجاوز عدد المستوطنين في بداية التسعينيات نحو 200 ألف. النمو السكاني في المستوطنات يفوق بكثير النمو الطبيعي في المجتمع الإسرائيلي، إذ يُشجَّع المستوطنون على الانتقال إلى الضفة الغربية عبر حوافز اقتصادية مثل تخفيض أسعار الأراضي، وتقديم إعفاءات ضريبية، ودعم حكومي للبنية التحتية.

أما من الناحية الجغرافية، فإن توزيع المستوطنات ليس عشوائياً، بل يخضع لخطط مدروسة تهدف إلى السيطرة على المناطق الحيوية. المستوطنات تُبنى عادة على التلال والمرتفعات، ما يمنحها موقعاً استراتيجياً يطل على القرى الفلسطينية، ويتيح السيطرة الأمنية والعسكرية. كما أن الطرق الالتفافية التي تربط هذه المستوطنات ببعضها وبالداخل الإسرائيلي تقطع أوصال الضفة الغربية، وتحول المدن الفلسطينية إلى كانتونات صغيرة منفصلة عن بعضها البعض. على سبيل المثال، مدينة القدس الشرقية محاطة بطوق من المستوطنات مثل “معاليه أدوميم” و”بسغات زئيف”، ما يجعل التواصل الجغرافي بين القدس والضفة الغربية شبه مستحيل.

الجدار العازل الذي بدأ بناؤه عام 2002 أضاف بعداً جديداً لهذه السيطرة الجغرافية. فبينما يُسوَّق الجدار باعتباره إجراءً أمنياً، فإنه في الواقع ضم فعلياً مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية إلى الجانب الإسرائيلي. تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) تشير إلى أن أكثر من 10% من أراضي الضفة الغربية أصبحت معزولة خلف الجدار، ما حرم عشرات آلاف الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية ومصادر رزقهم. هذا العزل الجغرافي أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي الفلسطيني بشكل كبير، وأثر على الأمن الغذائي للسكان.

الأثر الديموغرافي والجغرافي للاستيطان يتجاوز الحاضر ليهدد المستقبل. فمع استمرار التوسع، يصبح من الصعب تصور قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل جغرافي. المدن الفلسطينية الكبرى مثل رام الله ونابلس والخليل محاطة بمستوطنات وطرق عسكرية، والقرى الصغيرة تتعرض لضغوط يومية من المستوطنين الذين يعتدون على المزارعين ويمنعونهم من الوصول إلى أراضيهم. هذا الواقع يخلق بيئة طاردة للفلسطينيين، ويدفع الكثيرين إلى الهجرة أو الانتقال إلى مناطق أقل عرضة للاعتداءات، ما يعزز التغيير الديموغرافي الذي تسعى إليه إسرائيل.

إن البعد الديموغرافي والجغرافي يكشف أن الاستيطان ليس مجرد توسع عمراني، بل هو أداة استراتيجية لإعادة تشكيل الأرض والسكان، بحيث يُحاصر الوجود الفلسطيني ويُفتت جغرافيته، ويُستبدل تدريجياً بواقع جديد تهيمن عليه المستوطنات. هذا المسار، إذا استمر، قد يؤدي إلى محو الهوية المكانية الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد تجمعات صغيرة بلا قدرة على الاستمرار أو النمو.

الأثر الاقتصادي والاجتماعي للاستيطان

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية لا يقتصر على تغيير الجغرافيا والديموغرافيا، بل يمتد أثره العميق إلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، حيث ينعكس بشكل مباشر على مصادر رزقهم، وعلى نسيجهم الاجتماعي، وعلى قدرتهم على الاستمرار في أرضهم. هذا المحور يكشف الوجه اليومي للاستيطان، بعيداً عن الأرقام والسياسات، من خلال معاناة المزارعين والعمال والعائلات الفلسطينية التي تجد نفسها محاصرة ومحرومة من أبسط حقوقها.

من الناحية الاقتصادية، يشكل القطاع الزراعي أحد أهم ركائز الاقتصاد الفلسطيني، خاصة في الضفة الغربية. لكن هذا القطاع تعرض لضربات متتالية بسبب مصادرة الأراضي، واقتلاع الأشجار، ومنع المزارعين من الوصول إلى حقولهم. تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA) تشير إلى أن الفلسطينيين فقدوا خلال العقدين الأخيرين عشرات آلاف الهكتارات من أراضيهم الزراعية نتيجة التوسع الاستيطاني والجدار العازل. وحدها أشجار الزيتون، التي تُعد رمزاً للهوية الفلسطينية، تعرضت لاقتلاع أو تخريب عشرات آلاف الأشجار على يد المستوطنين، ما أدى إلى خسائر بملايين الدولارات سنوياً، فضلاً عن الأثر الرمزي والنفسي لهذه الاعتداءات.

الاعتداءات اليومية على المزارعين أصبحت جزءاً من المشهد المعتاد في مناطق مثل نابلس والخليل وقلقيلية. منظمات حقوقية مثل “بتسيلم” و”هيومن رايتس ووتش” وثّقت مئات الحالات التي تعرّض فيها المزارعون للضرب أو الطرد أثناء محاولتهم جني محاصيلهم، في ظل حماية مباشرة من الجيش الإسرائيلي للمستوطنين. هذه الاعتداءات لا تؤدي فقط إلى خسائر اقتصادية، بل تخلق بيئة طاردة تدفع الكثير من العائلات إلى ترك أراضيها والانتقال إلى مناطق أكثر أمناً، وهو ما يخدم الهدف الاستيطاني المتمثل في إفراغ الأرض من سكانها الأصليين.

الأثر الاجتماعي للاستيطان لا يقل خطورة. فالمجتمع الفلسطيني يعاني من تفكك جغرافي بسبب الطرق الالتفافية والجدار العازل، ما يجعل التواصل بين المدن والقرى صعباً، ويؤثر على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. العائلات الفلسطينية تجد نفسها محاصرة في كانتونات صغيرة، حيث الوصول إلى المدارس والمستشفيات والأسواق يتطلب المرور عبر حواجز عسكرية أو طرق طويلة ومعقدة. هذا الواقع يضعف الروابط الاجتماعية، ويزيد من معدلات البطالة والفقر، ويؤثر على الصحة النفسية للسكان الذين يعيشون تحت ضغط دائم.

كما أن الاستيطان يخلق حالة من التمييز البنيوي، حيث يحصل المستوطنون على خدمات وبنية تحتية متطورة، بينما يُحرم الفلسطينيون من أبسط الحقوق. الطرق المعبدة، شبكات الكهرباء والمياه، والخدمات الصحية والتعليمية تُبنى خصيصاً للمستوطنات، في حين يعاني الفلسطينيون من نقص حاد في هذه الخدمات. هذا التمييز يعكس سياسة فصل عنصري غير معلنة، لكنها محسوسة يومياً في حياة الفلسطينيين.

الأثر الاقتصادي والاجتماعي للاستيطان إذن ليس مجرد نتيجة جانبية، بل جزء من الإستراتيجية الشاملة لإضعاف المجتمع الفلسطيني، وإفقاده القدرة على الصمود، ودفعه تدريجياً إلى الهجرة أو الانسحاب من أرضه. هذه السياسة، التي تُنفّذ ببطء وبصمت، قد تكون أكثر خطورة من الحرب العسكرية، لأنها تستهدف البنية العميقة للمجتمع، وتعمل على تفكيكه من الداخل.

الموقف الدولي من الاستيطان

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يكن يوماً قضية داخلية تخص الفلسطينيين وحدهم، بل ظلّ محوراً أساسياً في النقاشات الدولية، لأنه يمسّ جوهر القانون الدولي ويهدد فرص السلام في المنطقة. الموقف الدولي من الاستيطان اتسم تاريخياً بالتنديد والإدانة، لكنه في كثير من الأحيان افتقر إلى آليات عملية للضغط أو المحاسبة، ما سمح لإسرائيل بالاستمرار في سياساتها دون رادع فعلي.

منذ احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية عام 1967، أصدر مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة عشرات القرارات التي تؤكد عدم شرعية المستوطنات. أبرز هذه القرارات هو القرار 242 لعام 1967 الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، والقرار 446 لعام 1979 الذي نصّ صراحة على أن سياسة الاستيطان “ليس لها أي شرعية قانونية وتشكل عقبة أمام السلام”. وفي عام 2016، جاء القرار 2334 ليؤكد مجدداً أن المستوطنات “انتهاك صارخ للقانون الدولي”، مطالباً إسرائيل بوقف جميع الأنشطة الاستيطانية فوراً. ومع ذلك، فإن هذه القرارات بقيت حبراً على ورق، بسبب غياب آليات إلزامية لتنفيذها، وبسبب الدعم السياسي الذي تحظى به إسرائيل من بعض القوى الكبرى.

الاتحاد الأوروبي، من جانبه، اتخذ موقفاً واضحاً ضد الاستيطان، حيث اعتبره غير شرعي، وفرض قيوداً على التعامل مع منتجات المستوطنات، مثل وضع علامات خاصة على السلع المنتجة في المستوطنات لتمييزها عن تلك القادمة من داخل إسرائيل. لكن هذه الإجراءات بقيت محدودة الأثر، ولم تصل إلى حد فرض عقوبات شاملة أو ضغوط اقتصادية كبيرة يمكن أن تغير سلوك إسرائيل.

الولايات المتحدة، القوة الأكثر تأثيراً في هذا الملف، اتسم موقفها بالتذبذب. ففي بعض المراحل، خاصة خلال إدارة الرئيس باراك أوباما، عبّرت واشنطن عن رفضها للاستيطان، وامتنعت عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد القرار 2334، ما سمح بتمريره. لكن في مراحل أخرى، خصوصاً خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، اتخذت الولايات المتحدة موقفاً مغايراً، حيث اعتبرت أن المستوطنات “لا تتعارض بالضرورة مع القانون الدولي”، وهو ما شكّل دعماً سياسياً كبيراً لإسرائيل في مواصلة مشروعها الاستيطاني.

على مستوى المنظمات الحقوقية الدولية، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، صدرت تقارير عديدة توثق الانتهاكات المرتبطة بالاستيطان، بما في ذلك الاعتداءات على المزارعين، مصادرة الأراضي، وسياسة الفصل العنصري غير المعلنة. هذه المنظمات طالبت مراراً بفرض عقوبات على إسرائيل، وبمحاسبة المسؤولين عن هذه السياسات أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي أعلنت في عام 2021 فتح تحقيق في جرائم الحرب المحتملة في الأراضي الفلسطينية، بما يشمل ملف الاستيطان.

رغم كل هذه الإدانات، فإن الموقف الدولي يعاني من فجوة كبيرة بين الأقوال والأفعال. فبينما تُعلن الدول والمنظمات رفضها للاستيطان، تظل إسرائيل قادرة على توسيع مستوطناتها دون مواجهة عقوبات جدية أو ضغوط حقيقية. هذه الفجوة تعكس اختلال ميزان القوى في النظام الدولي، حيث تُحرم الشعوب الضعيفة من حماية القانون الدولي، بينما تتمتع الدول القوية بقدرة على تجاوزه أو إعادة تفسيره بما يخدم مصالحها.

إن الموقف الدولي من الاستيطان يوضح أن القضية ليست فقط صراعاً محلياً، بل اختباراً لمصداقية النظام الدولي نفسه. فاستمرار الاستيطان رغم عشرات القرارات الأممية يكشف ضعف آليات المحاسبة، ويطرح سؤالاً جوهرياً حول جدوى القانون الدولي إذا لم يُطبق على أرض الواقع. وهذا ما يجعل الفلسطينيين يشعرون بأنهم يواجهون ليس فقط الاحتلال الإسرائيلي، بل أيضاً عجز المجتمع الدولي عن حمايتهم أو إنصافهم.

السيناريوهات المستقبلية للاستيطان

إذا كان الاستيطان قد شكّل منذ بداياته أداة لإعادة تشكيل الأرض والهوية الفلسطينية، فإن استمراره بهذا الشكل المتسارع يفتح الباب أمام سيناريوهات مستقبلية بالغة الخطورة، ليس فقط على الفلسطينيين، بل على المنطقة بأسرها وعلى النظام الدولي الذي يفترض أن يحمي القانون والعدالة.

السيناريو الأول يتمثل في محو الهوية المكانية الفلسطينية تدريجياً. مع استمرار مصادرة الأراضي وبناء المزيد من المستوطنات، قد نصحو يوماً على واقع لا نجد فيه مدينة فلسطينية واحدة متماسكة، ولا قرية قائمة بذاتها، بل مجرد تجمعات صغيرة محاصرة وسط بحر من المستوطنات. هذا الواقع سيجعل من المستحيل عملياً الحديث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة، وسيحوّل الفلسطينيين إلى سكان معزولين بلا سيادة ولا قدرة على إدارة شؤونهم.

السيناريو الثاني هو انهيار حل الدولتين. المجتمع الدولي ظل لعقود يطرح هذا الحل باعتباره المخرج السياسي للصراع، لكن التوسع الاستيطاني يقوّض أسسه يوماً بعد يوم. إذا استمر البناء الاستيطاني بوتيرته الحالية، فإن أي تقسيم للأرض سيصبح غير ممكن، لأن المستوطنات ستغطي مساحات واسعة من الضفة الغربية، وستجعل التواصل الجغرافي بين المدن الفلسطينية شبه مستحيل. في هذه الحالة، قد ينهار مشروع الدولة الفلسطينية، ويُطرح بدلاً منه سيناريو “الدولة الواحدة”، وهو سيناريو محفوف بمخاطر التمييز والفصل العنصري.

السيناريو الثالث هو تصاعد المقاومة الشعبية. الفلسطينيون الذين يعيشون تحت ضغط يومي من المستوطنين والجيش الإسرائيلي قد يجدون أنفسهم مضطرين إلى تكثيف أشكال المقاومة، سواء عبر الاحتجاجات الشعبية، أو عبر أشكال أخرى من الصمود مثل إعادة زراعة الأراضي المهددة، أو بناء مبادرات اقتصادية محلية. هذه المقاومة قد تخلق واقعاً جديداً يفرض على المجتمع الدولي إعادة النظر في موقفه، لكنها أيضاً قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد والعنف إذا لم تُرافق بضغط دولي حقيقي على إسرائيل.

السيناريو الرابع يرتبط بـ الموقف الدولي. إذا استمر المجتمع الدولي في الاكتفاء بالإدانات دون إجراءات عملية، فإن إسرائيل ستواصل مشروعها الاستيطاني دون رادع. لكن إذا حدث تحول في المواقف، مثل فرض عقوبات اقتصادية أو مقاطعة منتجات المستوطنات بشكل واسع، فقد يشكل ذلك ضغطاً حقيقياً يحد من التوسع. المحكمة الجنائية الدولية، التي أعلنت فتح تحقيق في جرائم الحرب المحتملة، قد تلعب دوراً محورياً إذا مضت في محاسبة المسؤولين عن الاستيطان، لكن هذا السيناريو يظل رهناً بالإرادة السياسية للدول الكبرى.

السيناريو الخامس والأكثر خطورة هو الهجرة القسرية للفلسطينيين. مع استمرار الاعتداءات اليومية على المزارعين، وحرمان العائلات من أراضيها، وتفكك النسيج الاجتماعي، قد يجد الكثير من الفلسطينيين أنفسهم مضطرين إلى مغادرة أرضهم بحثاً عن حياة أكثر أمناً. هذا السيناريو يخدم الهدف الاستيطاني المتمثل في إفراغ الأرض من سكانها الأصليين، ويعيد إنتاج مشهد النكبة بشكل بطيء وصامت.

في النهاية، السيناريوهات المستقبلية تكشف أن الاستيطان ليس مجرد قضية حالية، بل مشروع طويل الأمد يهدد وجود الشعب الفلسطيني على أرضه. ما يجري اليوم في الضفة الغربية والقدس ليس مجرد توسع عمراني، بل عملية منهجية لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا، قد تؤدي في النهاية إلى محو الهوية الفلسطينية بالكامل إذا لم يُواجه بضغط دولي حقيقي، وبصمود فلسطيني متجدد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock