د. فيروز الولي تكتب :الرجل الذي كان يمشي هونًا

لم يكن يشبه أولئك الذين يسبقهم الضجيج.
كان يصل بلا إعلان، ويجلس حيث ينتهي ظلّ الجدار، كأنه يخشى أن يزعج المكان.
إذا مرّ بين الناس، حسبته واحدًا منهم، وإذا تكلّم، أدركت أنك أمام أكثرهم وعيًا.
قالوا عنه أشياء كثيرة، لكنه لم يقل عن نفسه شيئًا.
كان يعرف أن الحقيقة كلما ارتفعت نبرتها، فقدت معناها.
في ذلك العام، عام الأسئلة الثقيلة، حين كانت البلاد تُسمّى “مرحلة”، ويُختصر تاريخها بكلمة: الخريف، التقيته.
لم أسأله بصفتي باحثًة فقط، بل بصفتي ابنة بلدٍ تكسّرت صورتها في رأسي.
سألته عن الفوضى،
عن الشعارات التي تحوّلت إلى سكاكين،
عن الثورة حين تعبت،
وعن الدولة حين نامت.
لم يجبني كما يجيب السياسيون.
لم يقل: هذا خائن، ولا ذاك بطل.
قال فقط:
“حين يفقد الناس إنسانيتهم، لا تنتصر فكرة… ينتصر الخراب.”
كان صوته هادئًا، كأنه يخشى أن يوقظ الجراح.
لم يدافع عن أحد، ولم يُجمّل أحدًا.
كان يضع الحقيقة على الطاولة، كما هي، عارية، بلا مساحيق وطنية.
قلت له يومها، وأنا أدوّن:
“ليت اليمن كانت من صفاء قلبك.”
ابتسم، كمن يعرف أن الأوطان لا تُدار بالقلوب وحدها، لكنها تموت حين تخلو منها.
كان يمشي كثيرًا.
ليس لأن الطريق طويل، بل لأن الوقوف صار خطرًا.
في بلدٍ صار الجلوس فيه اصطفافًا، والموقف فيه تهمة.
رأيته يحترم الصغير قبل الكبير،
لا لأن الصغير ضعيف، بل لأن الكِبر لا يمنح حق الإهانة.
وكان إذا خاطبه الجاهلون، قال سلامًا…
ليس عجزًا، بل لأن بعض المعارك لا تستحق أن تُخاض.
كان قويًا، لكنك لا تشعر بقوته.
وجريئًا، لكن دون استعراض.
يقول ما يجب قوله، ثم ينسحب، تاركًا الكلمات تفعل فعلها.
مع الوقت، فهمت:
هو ليس شخصًا واحدًا.
هو بقايا معلمٍ نزيه،
وظلّ قاضٍ عادل،
وحنين دولةٍ لم تولد.
وحين أنهيت عملي، أدركت أن أهم ما أضافه لرسالتي لم يكن المعلومة،
بل المصداقية.
أن تقول الحقيقة لأنك تحب هذا البلد، لا لأنك تريد إنقاذ صورتك.
غاب بعد ذلك، كما يحسن الغياب من لا يريد أن يتحول إلى تمثال.
لكن أثره بقي.
وفي كل مرة أرى فيها وطني يعلو صوته ولا يفهم نفسه،
أتذكر الرجل الذي كان يمشي هونًا،
وأدرك أن المشكلة لم تكن يومًا في غياب القادة…
بل في ندرة الإنسان.









