كتاب وشعراء

قصة قصيرة ………. بقلم // مها ريا // سورية

في العهد البائد كتبت قصة حدثت في الماضي وتحدث في الحاضر وكلّي أمل أن لا تحدث في المستقبل
بدايةً الحكمة تقول:
ترتفع الأصوات لتغطي المسافة التي تبتعد فيها القلوب
وتنخفض على نفس المسافة التي تتقارب فيها القلوب.
يحذوني الأمل صعدتُ قمة جبل أنشد الهدوء
همس خفيف لا لغة تقيّده ، نبسط له أجنحتنا ونحلق في الفضاء،تنتشي الأرواح من خمرة اللقاء، تمتلأ الخابية لصقيع الشتاء .
النظر زلّال يشدني.. بين جبلين
شاهقين ، تتدرج على ارتفاعهما الاشجار، وكأنها أبنية تتخاصر لتسند الجبل من الإنزلاق ،
في أسفل الوادي فتية، يقلّمون الأشجار، بسواعد قوية، وماهرة ،ويحزمون الأعواد اليابسة، بحبل، يلفونه على شكل جديلة متشابكة الخصلات، ثم يسحبونها مجتمعين بيد واحدة ،وقلب واحد ، يشدّونها نحو الأعلى برشاقة ،وعلى حواف متدرجة يرفعونها ،وكأنها سلّم، أُعدّ لهذا العمل.
من أعلى حافة على كتف الجبل أراقب بشغفٍ ما يفعلون ،
لا أعرف كم من الوقت، مضى وهم يتعاركون مع حملهم ليوصلوه إلى مستوى الطريق ، ربما أخذ العمل منهم ساعات ، وساعات ،حتى استنفذوا كامل طاقتهم ، فجلسوا يتأملون ثمرة جهدهم ،التي بالكاد تكفيهم لطهو طعامهم ،وتسخين ماء اغتسالهم
من خلف شجيرة أراقبهم ، بعد أن ارتاحوا قليلاً، قاموا بفك الحبل ليقتسموا الأحطاب ،
يبدو أن خلافاً حاداً، نشب بينهم ، لم أستطع تحديد أسبابه، ولكني خمّنت بأن كل واحد منهم أراد الاستئثار بالجزء الأكبر من الحطب،
لم أصدق عينيّ ، أكاد أجن… أهؤلاء المتعاركون هم من كانوا في أسفل الوادي منذ قليل؟!
انتهى العراك ، بسقوط كامل الحطب إلى حيث كان وتبعثر الفتية كل واحد في اتجاه.
منقبضة الصدر غابوا عن نظري، لتُحضر الذاكرة قصة مشابهة،لشدة ماأثّرت في نفسي يومها، تعود جلية الوضوح على الرغم من مرور السنين:
ترافق ثلاثة رجال على طريق ،تجمعهم صحبة قديمة، أضناهم شظف العيش ،وقلة الحيلة، يبحثون عن لقمة العيش، أحدهم نجار ،والثاني خياط ،والثالث شيخ طريقة، كل واحد منهم حمل صاحبه لبعض الوقت على ظهر حكايته ،الى أن جنّ الليل ،عرجوا إلى غابة، وفي كهف شجرة دهرية ،حطوا الرحال ،وتناولوا ما قسم الله لهم من زاد ،
تسامروا ،شكوا ،بكوا ثم اتفقوا على اقتسام حراسة الليل إلى ثلاثة حزم ،لكل واحد منهم حزمة من النوم، وحزمة من الحراسة ،ينام اثنان، ويسهر الثالث على حراستهم ، على بركة الله اتفقوا واُختير النجار، للثلث الأول من الليل،
بعد نوم الاثنين ،جلس النجار يتفكر في الحال التي آل إليها ،وكيف ترك وراءه أحب الناس إلى قلبه يعانون الفقر والحرمان،
اعتلت مخيلته صورة طفلته واللعبة التي وعدها بها
فسحب من جعبته منشاراً ،وقطع غصناً مائساً من الشجرة ،وجلس يشذبه بكل الحب الذي يكنّه لطفلته،
ينشر ما زاد عن الطول والعرض، وينحت بمهارة ودأب كي ينجز العمل قبل أن تنتهي حزمة حراسته ،
بخبرة محترف أصبح العود مجسماً لصبية بارعة الجمال ،
عند انتهاء الوقت المحدد ،أسند المجسم على جذع الشجرة، وأيقظ رفيق دربه الخياط ليسلّمه مكانه.
أبعد الخياط بقايا النوم عن جفنيه، نظر حوله ليأخذ مكاناً، يجلس فيه،
فوجئ بصنيع رفيقه ،وبراعته ، وجمال صنيعه ففاضت مشاعره على أيام خلت وتذكر آخر فستان خيّطه لعروس فقدت عريسها قبل أن ترتديه،
انتابته مشاعر مختلطة ،من حزن و فرح ووو
فسحب من كيسه أدوات الخياطة ،وخلع جلبابه الأبيض ،من تحت عباءته
بأناةٍ واهتمام بدأ بتفصيل ثوب الدمية،
ومع إستغراقه في العمل مضى الوقت سريعاً لم يرف له جفن حتى صار الفستان على جسد الدمية بكامل البهاء والجمال
فكان أجمل ما فصّله في حياته ، ومع انتهاء نوبته في الحراسة أعاد إسنادها إلى جذع الشجرة ،
أيقظ رفيقه الثالث ، وتمدد متعباً، ليغط في نوم عميق.
نهض الشيخ قبل الفجر بقليل ،وريثما يحين موعد صلاته راح يبحث عن مكان يتربع فيه..
يا للجمال !!سبحان الخالق !
من أين أتت هذه الصبية الحسناء؟
ما لبث أن أدرك أن النجار والخياط صنعاها في وقت حراستهما،
انتابه حزن شديد؛لأنه لا يملك صنعة ،تمكّنه من إضفاء مسحة من الجمال على هذه الدمية ،
لاح الفجر، وهو على هذه الحالة، فما كان منه إلا أن نهض ليصلي فريضته ،ويدعو ربه
أن يدبّ الروح في جسد الدمية الخشبية ،
وما هي إلا لحظات وأشرقت فيها الشمس وأولى خيوطها تلتمع على وجه صبية من لحم ودم …!!؟؟
كاد يُغمى عليه
على صوت هذيانه استيقظ رفيقاه تلعثمت الألسن وكادت القلوب أن تتوقف
فاضت الدموع، والصبية تنقل عينيها ،من واحد لآخر، لا تعرف لغة للخطاب !
توقف الزمن …
المعجزة أمامهم، فما هم فاعلون ؟
تعانقوا، شدّوا على أيادي بعضهم ….
غسلوا وجهوهم ؛ ليزيلوا آثار النوم والتعب ،ظناً منهم أن التعب جعلهم يتوهمون تلك المعجزة ،
فالأمر لا يمكن له أن يكون حقيقة !
لكن المعجزة قد تحققت ،وصارت واقعاً ماثلاً أمام أعين الأربعة،
تعوذوا من الشيطان ،وليستوعبوا الأمر فردوا زادهم، ودعوا المعجزة ،إلى تناوله معهم،
وعندما جلست بينهم ،وبدأت تأكل من زادهم أيقنوا بأنها من لحم ودم،
عيونهم مطرقة يرفعونها بين الفينة والأخرى ليتأملوا جمالاً وحضوراً لم يسبق لمخلوق أن اكتمل فيه،
لحظات فارقة بحياتهم ،ربما دامت لساعات…
ذهبت السَكرة وجاءت الفكرة لمعاودة التفكير فيما خرجوا من أجله،
كيف؟ وبرفقة من تكون الحسناء؟؟؟
وقف الشيخ ممسكاً بيد الصبية يستأذنهم بالرحيل ،وهنا يعترض النجار:
– كيف فوضت نفسك بمرافقتها والفوز بها! ؟.
– هي من حقي ،أنا من ناجيت ربي لينفخ الروح فيها
– إنها فكرتي، وأنا من صنعتها دمية لابنتي
يتدخل الخياط :
– أنا من ألبستها ،وجعلتها عروساً ،تجر أذيال ثوبها .
يعاود الشيخ جداله :ما نفع صنيعكما ،لو لم يستجب الله لدعائي ؟ إنها من حقي وحدي .
– يا رفيق دربي إن كان لأحدنا الحق بمرافقتها فأنا الأولى بذلك لأنني صنعت الجسد ،ومنحته الجمال ،ولولا رؤيتك لهذا المجسم البديع ،لم تلهمك نفسك بالدعاء ، فصنيعي هو الأسبق.
قبل أن يرد الشيخ، على كلامه ،أمسك الخياط بطرف الكلام :
– الجسد الذي صنعته يا رفيقي ،لو لم ألبسه ثوباً يليق به لما بدت مفاتنه …
فقميصي ودقة صنعي ،هما من أضفيا عليها سبغة الجمال.
صاح الشيخ بملء فيه:
– ما نفع جسد جامد في لباس مهما بدا عليه من جمال،
فصنيعكما مأواه النار، لولا الروح التي وهبتَها الحياة.
صراخ ،فمشادة ،فعراك …
يكيلون لبعضهم ،أقسى أنواع الشتائم والتهم.
غابت عقولهم ،ونسوا ما جمعهم ،وخرجوا من أجله وظلوا على هذه الحالة حتى تلاشت الدمية في الفراغ
وكل ما كان ،أصبح كان ياما كان.

وفي النهاية أقول:
سورية عروستنا الجميلة تستحق أن نترفّع على خلافاتنا ونعمرها بيد واحدة وقلب واحد.

غصنُ الجمالِ بِغيرِ الحبِّ ما سمقَا
و مَبسمُ الوردِ غيرَ العطرِ ما دلقَا

في معجمِ الحبِّ لِلأفكارِ دندنةٌ
كما صدى ريشةٍ في آلةٍ نطقَا

تَصفو النُّفوسُ إذا ما الحبُّ لامَسَها
كالنُّورِ في نبعِ ماءٍ رقَّ .. فأْتَلقا

ما لِلعيونِ ! و قدْ تاهتْ مَداركُها
عنِ الجمالِ الذي أرساهُ مَنْ خلقَا

أمشي وخلفيَ مِلء الفكرِ أسئلةٌ
في مجمرِ الحقدِ كمْ منّا قدِ احترقَا !؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى