علي الحفناوي يكتب :أمريكا الفرنسية

قبل قيام الثورة الفرنسية بسنوات قليلة، وتحديدا منذ 236 عاما فقط، كان مولد دولة “الولايات المتحدة الأمريكية” فى شهر سبتمبر عام 1783. وقد تم الاعلان عن هذا المولد خلال اجتماع عقد بقصر فرساى فى فرنسا بحضور الملك الفرنسى لويس السادس عشر، وملك بريطانيا جورج الثالث، فى وجود مندوب عن ملك أسبانيا. وفى هذا الاجتماع، تم الاعلان عن انتهاء حرب الاستقلال الأمريكية، وانضمام 13 مستعمرة بريطانية تحت لواء جديد لدولة تم تسميتها بالولايات المتحدة الأمريكية.
والجدير بالذكر، أن تلك المستعمرات الأوروبية الأصل، والتى أسمت نفسها بالولايات، لم تكن تضم من السكان ما يزيد عن خمسة مليون نسمة، وكان تعداد سكان أكبر مدنها (فيلادلفيا) لا يزيد عن 40 ألف نسمة
وفى ذلك اليوم التاريخى من شهر سبتمبر، وافقت بريطانيا على الطلب الذى تقدم به شخصيا بنيامين فرانكلين لسفير بريطانيا بباريس، والذى بمقتضاه اعترفت بريطانيا بخسارتها الحرب، وباستقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن الامبراطورية البريطانية. لكن ظلت الدولة الجديدة هشة، تضم بعض الأراضى المتفرقة فى أرجاء القارة الأمريكية، فاجتهد مؤسسى الدولة الجديدة لاصدار دستور لحكم البلاد وفق نظام فيدرالى جمهورى: “الجمهورية الأمريكية”، ولم يكتمل ذلك الدستور إلا بعد أربع سنوات. أما أول رئيس جمهورية، فلم ينتخب إلا عام 1789، وكان جورج واشنطن.
كان العداء بين بريطانيا وفرنسا شديدا منذ قرون مضت. وقد خسرت فرنسا بعض المعارك عبر التاريخ فى القارة الأمريكية، مثل خسارة الأراضى الفرنسية التى استعمرتها بريطانيا وحولتها إلى دولة كندا، لذلك، عكفت الدولة الفرنسية على محاربة بريطانيا فى أمريكا، فدعمت ومولت التجمعات التى قادت حرب الاستقلال ضد بريطانيا، حتى انتصرت.
وعودة لاجتماع فرساى فى سبتمبر 1783، كان الملك لويس السادس عشر، لا يبلغ من العمر سوى 28 عاما، ولكنه كان مدركا لمغزى هذا الاجتماع الذى كرس انتصار حلفاء فرنسا فى حرب الاستقلال، فكان سعيدا باعلان قيام الدولة الأمريكية فى الوقت الذى كان ملك انجلترا يعيد ترتيب أوراقه للحصول على مستعمرات بديلة فى مختلف بقاع العالم، وبصفة خاصة على كامل شبه الجزيرة الهندية، لمنع التواجد الفرنسى بها، وقد كان. فهل كان الملك الشاب يدرك نتائج هذا الانتصار؟
كانت التكلفة المالية والعسكرية للدعم الفرنسى لنشأة الدولة الأمريكية المستقلة باهظة، أدت إلى الاهتزاز المالى للمملكة الفرنسية. فقد كانت حرب بالوكالة، أحد أطراف التوكيل لا يمثل إلا جماعات مشتتة من رعاة البقر غير المنظمين، فى حين أن الطرف الذى يتحمل عبء التنظيم وتكلفته يمثل دولة قوية، لكنه لا يحارب حربا مباشرة. وقد أدى هذا الدعم إلى وفاة العديد من كبار القادة العسكريين الفرنسيين، وأدت إلى خراب خزانة الدولة الفرنسية…
لتلك الأسباب، ولمحاولة علاج الموقف الداخلى، اضطر الملك لويس السادس عشر إلى دعوة لاجتماع طارىء لأجهزة الدولة الفرنسية عام 1789. وكان الهدف من الاجتماع تشريع نظام ضريبى جديد لعلاج خزانة الدولة وأحوالها المالية. فكان هذا الاجتماع هو أول مسمار فى نعش المملكة الفرنسية. فكانت تبعات الاجتماع الذى رفضت أثناء انعقاده كل طلبات الملك، قيام الثورة الفرنسية خلال شهرين فقط من بدء الاجتماع، ثم كانت تبعات الثورة الدرامية اعدام الملك لويس السادس عشر بالمقصلة يوم 21 يناير عام 1793.
ورغم محاولات عودة النظام الملكى فيما بعد، خاصة بعد حكم الامبراطور نابليون بونابارت، فقد انتهت تلك المحاولات عام 1848 بخلع الملك لويس فيليب الأول واعادة النظام الجمهورى باسم الجمهورية الثانية.
هكذا كانت لولادة الدولة الأمريكية الجديدة نتائج أدت لنهاية النظام الملكى للدولة الفرنسية، فكانت مثل القشة التى قسمت ظهر البعير.
أما عن تبعات العلاقات الأمريكية الفرنسية، فقد قام نابليون بونابارت بتحويل الجمهورية إلى امبراطورية، معينا نفسه امبراطورا على فرنسا وهو لا يزال فى مقتبل الحياة، ولم يكن قد تعدى التاسعة والعشرون من عمره، ولم يمنعه ذلك من غزو دول كبرى فى ذلك الوقت مثل النمسا وبروسيا (ألمانيا) وغيرها حتى أصبح الامبراطور المسيطر على معظم أوروبا.
التفاصيل الشخصية البارعة لنابليون، هذا الشاب الغير تقليدى، والممكن تلخيصها فى الذكاء الحاد والدهاء التكتيكى والفكر الاستراتيجى الواضح إلى جانب الأخذ بأساليب مستحدثة لا يتوقعها ولا يفهمها عدو أو صديق فى كل تحركاته، سواء العسكرية أوالسياسية، جعلته يتخذ قرارا تاريخيا خطير بغرض تمويل تلك الامبراطورية الناشئة والمهيمنة.
فبالإضافة إلى مصادر التمويل التقليدية، قام نابليون ببيع أمريكا للأمريكان. باع الأراضى الشاسعة من قارة أمريكا الشمالية التى كانت تحت النفوذ الفرنسى، بدءا من اللويزيانا جنوبا حتى حدود كندا شمالا بمساحة تقدر بما يزيد عن 2 مليون كيلومتر مربع. وكانت تلك الأراضى فى ذلك الوقت تزيد عن مساحة الولايات المتحدة ذاتها. (ولكنها لا تمثل الآن سوى 23% من المساحة الكلية للولايات المتحدة الحالية). وكان سعر البيع النهائى يمثل 15 مليون دولار (نحو 150 تريليون بسعر اليوم).
تحققت أهداف نابليون من هذا البيع وهى: التخلص من أعباء ادارة بلاد بعيدة تحتاج لتنمية وموارد ضخمة، بالإضافة إلى عدم اختصام الولايات المتحدة فى خلاف فرنسا مع بريطانيا. وقد أدى ذلك إلى حصول فرنسا على مصدر دخل ضخم غير متوقع، يسمح لها ارساء قواعد امبراطوريتها فى أوروبا، ولاحقا في مستعمراتها الجديدة.
كانت المفاوضات السرية والعلنية لإنهاء هذه الصفقة قد استمرت ثلاث سنوات، وكان يقودها هذا الشاب النابغ نابليون بونابارت حتى حصل على مراده كاملا بنهاية سنة 1803، فى حين دخلت الولايات المتحدة فى حالة افلاس لعدة سنوات نتيجة لهذا الشراء، شراء استقلالها التام.
أسماء فرنسية لامعة صنعت الولايات المتحدة الأمريكية، مثل لويس السادس عشر ولافاييت وبونابارت. تضحيات هائلة قدمتها فرنسا لتحصل أمريكا على استقلالها… فهل ابتعدت أمريكا عن الهيمنة البريطانية حقا؟؟ التاريخ يقول عكس ذلك.