قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله/في نص نشيج نافذة للأديبة اعتماد الفراتي

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله
في نص “نشيج نافذة” للأديبة اعتماد الفراتي
#الذات المتشظية في نشيج نافذة: من الحضور إلى الغياب
“The Fragmented Self in: ”A Window’s Lament” From Presence to Absence
#الاستنطاق التمهيدي: يشكل نص “نشيج نافذة” للكاتبة اعتماد الفراتي نموذجاً مركباً للكتابة الحداثية النثرية التي لا تكتفي بإعادة إنتاج الذات داخل اللغة، بل تسعى إلى زعزعة استقرار المرجعيات التقليدية عبر بنية مفتوحة تتكئ على الرمز والتجريد والتيه، وتقاوم الإحالة المباشرة أو التفسير الأحادي. يندرج النص ضمن أفق الكتابة التأملية التي تستبطن قلق المعنى وتغذي انفتاحه على تأويل متعدد الطبقات، يتجاوز المعنى النهائي لصالح تشظيات القراءة، حيث لا يكون القارئ باحثاً عن دلالة مغلقة، بل شريكاً في إنتاج الدلالة.
في هذا السياق، يتجاوز النص مجرد التأمل الشعري، ليصبح حواراً داخلياً بين الذات وظلها، بين اللغة وقلق الهوية، ويتجلى بوصفه كائناً لغوياً حياً ومفتوحاً، يقترب مما وصفه موريس بلاشو بـ”الكتابة التي تحيا خارج المطلق، وتزدهر في اللايقين”. ومن هذا المنطلق، تسعى هذه القراءة إلى استنطاق النص لا بوصفه خطاباً لغوياً فقط، بل باعتباره فضاءً وجودياً تَكتب فيه الذات قلقها وتعيد تشكيل ملامحها عبر الحبر والمجاز والرمز.
الذات السردية: تشكل الهوية عبر الحكي والتأويل
يتبنى هذا التصور النقدي رؤية بول ريكور للغة بوصفها وسيطاً وجودياً ، وللهوية بوصفها بناءً سردياً لا جوهراّ ثابتاً. فالذات، وفقاً لريكور، لا تُدرك إلا من خلال “تأويل الحكاية التي ترويها عن نفسها”، ما يجعل السردية أفقا ً تأويلياً تنبثق فيه الهوية عبر الزمن، لا بوصفها معطى، بل باعتبارها مشروعاً متجدداً .
في هذا السياق، يظهر نص نشيج نافذة كرحلة سردية ذاتية غير خطية ، يتماهى فيها التيه مع اللغة، وينفصل “القلم” عن اليد ليصبح فاعلاً مستقلاً يدون ذاتاً لا تزال في طور التشكّل:
“أكتب لا لأنني أعرفني، بل لأنني أجهل الطريق إلى النافذة.”
هذه العبارة تكثّف مركزية الغموض في هوية المتكلم، وتؤكد انخراط الذات في مشروع سردي تأويلي، حيث لا تكون الكتابة أداة كشف، بل فعلاً يعمق المسافة مع الذات. فالمعرفة هنا لا تبنى عبر الوضوح، بل عبر الانخراط في غموض ينتج المعنى من داخله. وهذا ما يعيدنا إلى ما يمكن تسميته بـ”هرمينوطيقا الذات المتأولة”، حيث تتجلى الذات ككائن لغوي مفتوح، في طور دائم من التكون والتشكل عبر الحكي والمجاز.
تفكيك مركزية الحضور واليقين
ينزع النص نحو تفكيك فكرة “الحقيقة المطلقة” واستبدالها بمفهوم “الحقيقة المؤجلة”، حيث لا ينفتح المعنى إلا من خلال الرمز والمجاز. كما يتجلى ذلك في القول:
“فأسأله أن يُسدل الستارة لا على نهاية، بل على بداية أخرى تولد من اليقين الذاكرة”.
هنا تجرد الكتابة من وظيفة التوثيق، وتمنح وظيفة وجودية: توليد الذاكرة. يستدعي هذا المقطع تصور جاك دريدا في “الكتابة والاختلاف”، بأن الكتابة ليست إحالة إلى واقع بل إلى أثر، وأن العلامة تحيل إلى أخرى في سلسلة لا نهائية. هكذا يتحول الحبر إلى فضاء رمزي لا يثبت المعنى، بل يدفعه إلى التأجيل والانزلاق.
البنية الأسلوبية والانزياح الجمالي
تبنى لغة النص على تكثيف البلاغة والانزياح، وليس التوصيل المباشر. يُستعمل الحرف أداة للتماهي بين الفكر والوجود، ويصاغ المشهد اللغوي كلوحة تجريدية:
“غرقتُ في لجّةٍ لا تُدرك شواطئها… أأنا كل هذا الانكسار المنمّق؟”
تُظهر هذه الصورة نمطاً انكسارياً مجازياً للذات، حيث يتماهى الداخل الشعوري مع الخارج البلاغي، وتصبح اللغة مرآة لما هو مبعثر، مما يعزز مفارقة الذات الكاتبة مع ذاتها المكتوبة. وهذا يتناغم مع رؤية رولان بارت في “لذة النص”، حيث يتجاوز النص الوظيفية إلى منطقة الغواية والتشظي، فتكون القراءة فعل انجذاب لا استهلاك.
الرمز بوصفه مجازًا للكينونة
الرمز في النص ليس مجرد تقنية فنية، بل هو وسيط وجودي لاستكشاف الذات. النافذة، التي تحمل دلالة الانفتاح، تتحول إلى كيان بكائيّ محمّل بالتوتر:
“دلّني علني أجدني هناك قرب نشيج نافذة باكية”
هنا تتجسد النافذة كأفق وجودي هش، لا يعكس العالم بل يئن به. وكأن الكتابة هنا ليست بوصفها كشفاً ، بل كفعل بكاء رمزي ويتعمق ذلك في البنية التكرارية للسؤال الذاتي:
“من يكتب من يا أناي؟”
وهو سؤال يعكس أزمة الهوية الكتابية التي تفكك ذاتها داخل النص، وتعيد تشكيلها عبر تراكم الرموز.
تعدد الأصوات وتشظي الذات
يتسم نص “نشيج نافذة” بتعدد الأصوات (Polyphony)، حيث تتداخل فيه مستويات خطابية متعددة، أبرزها صوت “الأنا” الكاتبة، وصوت “القلم” كشريك وجودي، إلى جانب صوت “الطفولة” أو الذاكرة الجذرية، وصوت “الظل” بوصفه تمثيلاً لقلق الذات وهويتها المزدوجة. هذا التعدد لا يحدث تراكباً صوتياً فحسب، بل يعكس تشظياً عميقاً في بنية الذات، ويجسد البحث المستمر عن هوية غير يقينية. تتشكل هذه الأصوات في حوار داخلي متوتر، يكرّس الانقسام بين الذات والآخر، بين الحضور والغياب، مما يعكس ما وصفه ميخائيل باختين بـ”تعدد الوعي داخل النص”، حيث لا تخضع الأصوات لهيمنة سردية واحدة، بل تتجاور في توتر خلاق يفتح إمكانات متعددة للتأويل (Bakhtin ). هكذا، يغدو النص فضاء ديناميكياً تتكلم فيه الذوات المختلفة دون سلطة صوتية مركزية، بما ينسجم مع الطابع الحداثي والتأويلي الذي يتجاوز السرد الأحادي لصالح التعدد الوجودي.
الحضور الهامشي للطفولة والذاكرة
في المقطع:
“أنا طيفك حين كنت صغيراً، أحمل دفترك في حقيبتي، وحلمك الغافل عن التشظّي…”
تستحضر الكاتبة الطفولة لا كحنين، بل كجذر وجودي للذات المتكتبة. هذه الذاكرة ليست نوستالجيا بل رمزاً تأسيسياً ، يتقاطع مع تصور بول ريكور للذاكرة بوصفها “تمثّلاً سردياً للزمن المفقود”.
وهكذا يتداخل الرمز مع الذاكرة ليشكلا معًا فضاءً تأويلياً تعيد فيه الذات تشكّها، لا عبر الاستذكار أو المجاز فحسب، بل بوصفهما معبرين وجوديين نحو كينونة مفتوحة على الاحتمال.
و بالتالي يحقق نص( نشيج نافذة) بذلك أحد أهم شروط الكتابة الحداثية كما حددها النقاد، والمتمثلة في التوتر بين المعنى والحضور، وفي التماهي بين الفعل الكتابي والبحث الوجودي. إذ لا تمارس الكتابة هنا كأداة قول فحسب، بل كتجربة وجودية تعيد الذات من خلالها اكتشاف نفسها عبر فعل الكشف والتكوين.
وفي هذا الإطار، يمكن قراءة نشيج نافذة في تقاطع مع نصوص تأملية حداثية لكتّاب مثل أدونيس وغادة السمان، حيث تتلاقى التجارب في توظيف المجاز والتجريد كوسائط لاستكشاف الذات الممزقة داخل زمن متشظ. فبينما يعيد أدونيس تشكيل العالم من خلال انزياحات لغوية كثيفة ورؤية صوفية حداثية، تستثمر اعتماد الفراتي رموزاً مثل “النافذة”، و”التيه”، و”الحبر” لبناء خطاب داخلي مشحون بأسئلة الهوية والانتماء والكتابة. كذلك، نجد لدى غادة السمان حساً اعترافياً وجودياً يتقاطع مع نص اعتماد الفراتي في انكشاف الذات الأنثوية عبر الحيرة والتجربة والانغماس الرمزي.
بهذا، يرسخ النص مكانته داخل مشهد الكتابة الحداثية بوصفه نموذجاً لتجربة لغوية وفكرية تؤسّس لفهم الكتابة كمسار تأويلي للذات، لا كمرآة عاكسة لها، حيث يعاد تشكيل الوجود بالحبر، ويتحول الحرف إلى أداة بحثٍ وجودي في عالم تتماهى فيه المعاني وتتفتت الدلالات.