خلاصة ما قاله نقاد أكاديميين…د.صادق القاضي

من بين أعمالٍ نوعيةٍ قليلة للشعرية اليمنية المعاصرة في مطلع الألفية الجديدة، يوفر هذا الديوان نموذجا مثاليا لخصائص هذه الشعرية في الأشكال والمضامين، والقيم الفنية والجمالية، والأبعاد الاجتماعية والثقافية، لشاعر قدير مت
مكن من أدوات فنه، ويناور ببراعة على خيط رفيع حساس بين التزاماته في شعره للفن، والتزاماته تجاه المجتمع، دون أن ينزلق كغيره في هاوية الميل لأحد الجانبين.
هذه خلاصة ما قاله نقّاد أكاديميون، لا يعرفون شخص الشاعر، ولا يخافون في النقد لومة لائم، وكنت قد أرسلت لهم هذا الديوان لتقييمه بمهنية نقدية أشعر أنها قد تخونني وأنا أتحدث عن شعر أخٍ عزيز، وصديق حميم، ورفيق درب وعر. أعرفه منذ عقود، وترددت كثيرا عن كتابة مقدمة لديوانه حتى لا أقع في فخ “التقريظ” المترتب عن انحياز لاواعٍ للرفقة الطويلة والصداقة الحميمة.
لقد أشادوا بهذا العمل أكثر مما كنت أخاف أن أتورط فيه، فقررت وضع هذا التقديم، لأتحدث عن الشاعر “عبده سعيد قاسم”. أكثر من شعره، ثقةً منّي برقي هذا العمل الفني من جهة، وبالقدرة النقدية والتذوقية للقارئ. من جهة أخرى، فالمتلقي في الأخير هو سيد العملية الإبداعية، فيما يمكن للحديث عن الشاعر أن يعين المتلقي بمفاتيح قرائية لا غنى عنها.
من بين أشياء كثيرة في هذا الديوان. يمكن ملاحظة أن “أزمة الطفولة”. -كما في حياة كثير من أبطال التاريخ والأسطورة- هي البرزخ الذي عبر من خلاله الشاعر إلى الشعر، والمحك الذي تشكلت عليه شخصيته الوجدانية والفنية، بحضورها المهيمن على امتداد هذا الديوان، وتغلغلها في مختلف مفاصله، كذاكرة حافلة بالذكريات التي تمّ إعادة إنتاجها بملامح وأبعاد مجازية ناضجة. تتمحور حول ثلاثية متداخلة العناصر: المرأة والوطن والشعر.
كان أول حضور للمرأة في حياة وشعر الشاعر هو غيابها، كأمٍّ توفيت في السنة الثالثة لولادته. فقدان الأم. تجربة إنسانية بالغة العمق والتأثير في الوعي واللاوعي الشخصي للطفل، وقد حضرت بحساسية عالية في وجدان الشاعر منذ وعى بهذا الفقد، وطوال حياته، وانعكست بشكل عميق على مختلف نتاجاته الشعرية المصبوغة في غالبيتها بالمرارة والحزن الشفيف:
رغم شيبي ما زلت طفلا يتيماً … عالقاً في قماط بؤسي ويُتمي
صرخة البدء كان رجع صداها … صخب الحشرجات في صدر أمي
غير أن اليتم الذي ظل يسم وجدان الشاعر، ويتغلغل في نتاجه الشعري، لا يلبث أن يتخذ أبعادا وجودية كونية، متلازما بشدة مع تيمة “الوطن”. والمرأة، كما في قصيدة “من رحم اليتم”:
أنا والبلاد وأنتِ..
وُلِدنا.. كما يولد الحزنُ من رحم اليتمِ. نحنُ الثلاثةْ
وُلِدنا على عجلٍ قرب نافذةٍ في السماءِ
ومأساتنا ولدت معنا بالوراثةْ
أنا والبلاد وأنتِ..
ولدنا كوشمٍ قديم ٍعلى ساعد الحربِ
في زمن القحطِ والنفطِ والبنكنوتِ البذيء وفوضى الحداثةْ
نحن هنا أمام يتمٍ كونيٍّ يطال الشاعر، وكل الأشياء الحميمة من حوله، بما فيها الوطن “البلاد”. والمرأة، ثلاثة توائم ولدت معا من رحمٍ واحد ماتت صاحبته، ليتجلى الوطن غالبا في الحروب والأزمات والبوس.. كعاهات مزمنة حاضرة في هذه القصيدة المتأخرة زمنيا تبعاً لامتداد حضورها الجارف في طفولة الشاعر وصباه، حيث نشأ. في منطقة ريفية واقعة على خطوط نار حرب أهلية كانت محتدمة في المناطق الوسطى بين الدولة و”الجبهة الشعبية” خلال أواخر سبعينيات، وأوائل ثمانينيات القرن الماضي:
أفقتُ على ضجّةِ الحربِ في وطنٍ
صلَبَتْه لحىً تتوسد أجفانه الداميات
وتحسو مدامعه والعرقْ
أفقتُ غلى خدعةٍ الًّفتها السنون حديثاً مريباّ
يدلّ على نسوة اختبأن من القصفِ
تحت هشيم الأغاني
وغِبْنَ مع النهر في أرخبيل الشبقْ
وهكذا في كل مرة. يؤكد الشاعر أن أول وعيه بالحياة، وإدراكه للعالم في طفولته بدأ من خلال إدراكه للحرب: الحرب، صلبته، الداميات، القصف، هشيم.. هي الملامح التي تتجسد بها تيمة “الوطن”، وهي متداخلة بتيمة “المرأة” التي. بدأت علاقته بها هي الأخرى. في طفولته:
تقاطع في طرقات الطفولة ظلّي مع امرأةٍ
نصبت قوس حاجبها لاصطيادي
بليلٍ شديد الغسقْ..
الليل شديد الغسق هو الآخر أحد تجليات الوطن المثخن بالحروب والأزمات العاصفة التي شكلت وعي الشاعر. طفلا ورجلا، إنه معضلة دائمة الوجع، مزمنة المرارة، وكينونة وجودية متداخلة بالمرأة والشعر، باعتبار المرأة روح الشعر وسر عبقريته:
الشعر أجمل حين تحضنهُ
فتاةٌ يشرب المعنى رحيق رضابها خمرا
ويمضي في انحناءات السطورِ
كشاعرٍ يرتاد مصْيَفْ
مفردتا الشعر والقصيدة غزيرا الحضور في هذا الديوان، وهما في معانيهما السياقية، أكثر من مجرد جنس أدبي أو وسيلة تعبير فني، إنهما كينونة مستقلة عن الشاعر ومتعلقة به في آن، الشعر. كالمرأة تماما. ذاتٌ وموضوعٌ يتحدث معه الشاعر، كما يتحدث به وعنه، بينما المرأة نبعٌ لا ينضب من الرموز.
وفي علاقتها بالحرب والعنف.. تطل المرأة. باعتبارها صورة للمرأة الأسطورية التي أنسنت “إنكيدو” في “ملحمة جلجامش”، وروضته للتمدن والتحضر، فهي تمتلك قدرات سحرية بإمكانها تغيير كل شيء إلى الأفضل، في سياق الحب:
بماذا نؤنسن ما أفسدته السياسة والحرب؟!
بالحبّ.. فالأرض أم ّ الجميعْ
أمومة الأرض هي التعويض اللاواعي عن فقدان الأمومة، في طفولة ظلت تجاربها حاضرة بشكل جارف لدى الشاعر، عبر تجليين، متداخلين، وبالتيمات المشار إليها:
الأول: تجلٍّ حميمي. مشبوب بحنين الشاعر إلى قريته “وطن طفولته وعالم صباه”، وذكر أسماء بعض معالمها، وتضمين ألفاظ شعبية لبعض أشيائها، والأسماء العامية لبعض زهورها وملابس النساء فيها.
الثاني: تجلٍّ سوداوي: يجعل من الذاكرة عبئا ثقيلا على صاحبها:
أحتاج للنسيان ذاكرةً جديدةْ..
أحتاج معنىً ثانياً
يكفي لتكتمل القصيدة.
أحتاج ليلاً تتقن المأساة فيه صياغتي
ويصير إيقاع الهموم مناسباً
لخطيئةٍ أخرى ملائمة
لخيبتيَ السعيدة..
بجانب عبء الذاكرة.. يعبر الشاعر هنا عن بحثه الدؤوب عن الأجد والمختلف الشعري، كأهم ما يحتاجه شاعر حديث على جوانب الشكل والمضمون، ليرتكب الخطيئة التي هي كتابة الشعر. كما لو أنها المعادل الفني للخطيئة الأزلية في السرديات الكبرى، وفق تناص رمزي يستحضر أكل التفاحة المحرمة في مقابل كتابة قصيدة جديدة ستترتب عنها خيبةٌ مختلفة.
لا يتسع المقام هنا لشرح الشواهد، فضلا عن إيراد شواهد أخرى، للتأكيد على أثر تجربة الطفولة، وبالذات على عناصر: “المرأة، والوطن والشعر”، وأنها – من بين أشياء كثيرة- الأكثر حضورا وبروزا على امتداد هذا الديوان، ورغم معايشة الشاعر المباشرة لفجائع وأهوال تلك الطفولة في اليتم والحرب، وتسببها بحرمانه من فرصة التعليم النظامي.. فقد انخرط مبكرا في معمعة الحياة، وجعلت منه هذه الطفولة المعذبة والصبا المكافح. رجلا عصاميا علم نفسه بنفسه، وثقفها وأدّبها، وتمكن من تعلم القراءة والكتابة، ومن ثمّ الاطلاع العميق الغزير، على مختلف فصائل الأدب والمعرفة، وبما جعله مرجعية ثقافية للمتعلمين وحتى المثقفين.
وكان لا بد لهذه الثقافة النوعية أن تنعكس بدورها على شعره، ما يمكن تلمسه في تأثره المقتدر بلغة وأساليب أفذاذ الشعرية العربية واليمنية المعاصرة، كالسياب ومحمود درويش، والمقالح وعبد الله البردوني، وفي استئناسه وتوظيفه البارع للرموز والأساطير، اليمنية والعربية واليونانية، وفق بنى شعرية تغلب عليها “التفعيلة”، رغم إجادته للكتابة العمودية.
ورغم براعته في الكتابة الشعرية والنثرية، وثقافته الموسوعية، وإمكانية أن يزاحم بفنه وثقافته في الأوساط الثقافية والشعرية، متذرعاً بوعي عميق، وخطاب أنيق، وتجربة طويلة مخضرمة في الكتابة الإبداعية.. فقد ظل حريصا على النأي بنفسه عن التهافت على الشهرة، غير مبالٍ بالنشر، أو الحاجة لمكبرات صوت لفرض نفسه على هذه الأوساط بمعايير غير فنية من أي نوع.
بل كان ينشر أحيانا بلقب مستعار. هو “ديك الجن الوهباني”، وفي كل حال. قصائد هذا الديوان “بروقٌ شاردة” هي غيضٌ من فيض قصائد قوية كثيرة منتظرة في أرشيف الشاعر. لفرصة للنشر. منتخبات من جملة نتاجه الشعري الغزير، الحافل بالجدة والجمال.
..
د. صادق القاضي