*”شبكة السرد العنكبوتية: قراءة تأويلية في ضوء شعرية الاحتمال …كتب/ فضل صالح

تبزغ *صوفيا الهدار* في نصها *”مفخخ بالاحتمالات”* ككاتبة تمتلك حسًا سرديًا متجاوزًا، تكتب من تخوم اللغة ومن شقوق المعنى، لا لتروي حكايةً بقدر ما تفتح أفقًا من التشظي والتساؤل. بأسلوبها المتوتر بالإيحاء، والمشحون بطاقة الشك، تبني شبكة سردية عنكبوتية تتقاطع فيها الأزمنة والأصوات والاحتمالات. وإن كان وصف “العنكبوتية” يوحي للفهم السريع بشيء من الإطباق أو الاصطياد، فإن مقصوده هنا مجازي، دقيق، يحاكي هندسة المعنى في النص؛ فهي شبكة لا تحاصر القارئ، بل تُغويه وتدفعه إلى التورط التأويلي، كما تتقاطع خيوط العنكبوت بخفة متناهية لاختبار قدرة الفريسة على التوازن. إنها بنية لغوية معقدة، شديدة الدقة، لا تنغلق على دلالة واحدة، بل تفتح النص على احتمالات لا تنتهي، بحيث تتحول اللغة من أداة وصف إلى حقلٍ دلالي ملغوم، مفتوح على التأويل والتأزم.
وما يميز أسلوب الهدار، إلى جانب شعريته وكثافته الدلالية، هو احترامها العميق لقرّائها؛ إذ تمنحهم سلطة التأويل، وتدع مجالًا رحبًا لتورطهم الشعوري والفكري، معتبرةً القارئ شريكًا لا تابعًا، ومبدعًا لا متلقّيًا سلبيًا، في إعادة إنتاج النص والمعنى.
ففي نصها “مفخخ بالاحتمالات” لا يقتصر السرد على مجرد تسلسل للأحداث، بل يشكل عالمًا متعدد المسارات، تُشبه فيه كل فكرة أو جملة خيطًا في شبكة معقدة، تلتقط الاحتمالات والتفسيرات المختلفة. فالعنوان “شبكة السرد العنكبوتية” يشير إلى البنية المتشابكة التي يتسم بها النص، إذ تتداخل فيه الأحداث وتتشابك في إطار لا نهائي من التفكيك والتشظي. هذا النص، في شكله وبنيته، يشبه شبكة عنكبوتية تُحيط القارئ، وتجذب حواسه ومشاعره وتفكيره، ليظل يدور في حلقات مترابطة ومفتوحة لا يفرق فيها بين اللامعنى والمعنى.
من خلال هذه القراءة، نجد أن النص لا يتبع خطًا زمنيًا ثابتًا أو تقليديًا، بل يتنقل بين الأزمنة والأمكنة في صيغة مفتوحة على الاحتمالات. تبدأ الهدار النص بـ”قد”، وهي أداة تفتح كل جملة على احتمال آخر، وعلى خيار مختلف، وتكرار “قد” في النص يعكس حالة من عدم اليقين والشك، فتظل كل الأحداث والتفاعلات معلقه في فضاء من الاحتمالات. تلك الجملة لا تمثل انطلاقة لحدث معين، بل تفتح مساحة لا متناهية من التفسير والتأويل. وبهذا، تكتسب “قد” دورًا لا يُحصر في فحص الوقائع بل في محاكاة الوجود ذاته بكل تشظياته.
النص يتخذ من هذا التكرار أداة لترسيخ حالة من التوتر الوجودي، إذ يصير كل “قد” انعكاسًا لمستقبل غير مؤكد، يظل يقف على حافة الزمن المتأرجح، هنا القارئ لا يعرف أين ستنتهي الحكاية أو كيف ستتبلور نهايات الأحداث. وفي هذا التوتر السردي، تكون اللغة في النص أشبه بالمتاهة التي تتداخل فيها المعاني والرموز، ويظل القارئ يتنقل بين شبكة الأحداث المتشابكة، دون أن يتمكن من الوصول إلى نهاية أو إجابة ثابتة.
الرموز في شبكة السرد
لا تقتصر على تشابك احداث الشبكة العنكبوتية فقط، بل تشمل أيضًا الرموز التي توظفها الهدار لبناء عالم النص، المقهى، السياسي، الجريدة، المطر، والقطار كلها تمثل علامات دلالية مشبعة بالاحتمالات، مثل خيوط في شبكة معقدة تتداخل فيما بينها لتشكل صورة مأزومة للواقع. تلك الرموز ليست ثابتة، بل تتغير وتتفاعل مع بعضها البعض وفقًا لخطوط السرد الملتوية.
على سبيل المثال، يمثل المقهى مكانًا لانتظار غير محدد، يتم فيه التفاعل بين الشخصيات حول قضايا متعددة (الأدب، السياسة، وهموم الحياة اليومية)، ولكن هذه المساحات المشتركة بين الشخصيات لا تؤدي إلى إجابة أو إغلاق للحوار، بل تعزز من الإحساس باللايقين والتشويش. كما أن مرور الزمن داخل المقهى لا يتوقف عند “اللحظة الراهنة” بل هو زمن متذبذب يتأرجح بين الذكريات والآمال التي لم تتحقق. وهكذا تتصاعد الاحتمالات التي توظفها الهدار لإبقاء الأحداث غير المكتملة مثيرة للمزيد من التفكك الدلالي في النص.
فما يميز هذا النص هو طريقة دعوته لتفاعل القارئ مع السرد الذي يقدمه؛ كي يشركه في عملية البناء والتفكيك. فكل “قد” تفتح فجوة في المعنى، وتدفع القارئ إلى التساؤل المستمر عن النهاية المحتملة للأحداث. النص لا يقدم اجابات جاهزة، بل يظل محفزًا لأسئلة متعددة؛ هل يمكننا أن نتوقع قرارًا نهائيًا؟ هل سنصل إلى قناعة أو معنى محدد؟
شعور القارئ بالضياع في هذه الشبكة السردية هو جزء من عملية التلقي، حيث لا يُطلب من القارئ فهم النص بشكل تقليدي، بل يُدعى للانغماس في غموضه وإعادة بناء معانيه الخاصة. وبذلك يصبح النص مجالًا مفتوحًا للتأويل، فحواس الشخصية تتداخل مع الكتابة، ليخلق ما يشبه “الفوضى الدلالية” التي لا تنتهي. كل قراءة تعني اكتشافًا جديدًا، ومع كل محاولة لفهم “قد”، تزداد الدلالات تنوعًا وتعقيدًا، ما يمنح النص سمات ديناميكية وحيوية.
باختصار، يمكن القول إن “مفخخ بالاحتمالات” هو نص يتسم بشبكة سردية معقدة، فلا توجد فيه نقطة انطلاق أو نهاية محددة، بل مسار مفتوح على الاحتمالات الكثيرة التي تتداخل فيما بينها. هذه الشبكة العنكبوتية تُجسد الواقع المأزوم الذي يعيشه الفرد، وما يترتب على ذلك من تمزقات وتناقضات بين الأمل واليأس، بين الفعل والانتظار. في هذا المعنى، يشكل السرد في النص مشروعًا مفتوحًا على التفسير والتأويل، لا ينتهي أبدًا بل يتجدد مع كل قراءة، ليظل القارئ في حالة بحث دائمة عن المعنى.