تقارير وتحقيقات

عبد الرحمن بدوي (1917-2002)، الفيلسوف المصري البارز والمثير للجدل،

عبد الرحمن بدوي (1917-2002)، الفيلسوف المصري البارز والمثير للجدل، ترك إرثًا فكريًا ضخمًا يتجاوز 150 كتابًا، وتُعد مذكراته “سيرة حياتي” (الجزء الأول والثاني، 768 صفحة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000) شهادة استثنائية على عصره، لكنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي. بدلاً من التركيز على حياته الشخصية، يقدم بدوي تحليلًا نقديًا للأفراد والأحداث والأماكن التي شكلت تجربته، مع طابع فلسفي واستطرادي يعكس نزعته الوجودية وتأثره بمارتن هايدجر وغيره من الفلاسفة الأوروبيين. في هذه الإجابة، سأتناول بالتفصيل انطباعاته عن “الآخر” في مذكراته، مقسمًا التحليل إلى فئات (الآخر الغربي، الآخر الصديق، الآخر الزميل، أعلام عصره، والكتب)، مع التوثيق الدقيق بناءً على المصادر المتاحة.
1. الآخر الغربي
عبد الرحمن بدوي، بصفته فيلسوفًا وجوديًا تأثر بشدة بالفكر الأوروبي، يظهر في مذكراته علاقة معقدة مع “الآخر الغربي”، تجمع بين الإعجاب والنقد. هذه العلاقة تتجلى في تعامله مع المستشرقين والفلاسفة الغربيين والأماكن التي زارها.
المستشرقون: بدوي كان له إعجاب مبكر بالمستشرقين، خاصة في مرحلة دراسته، حيث تتلمذ على أندريه لالاند وألكسندر كويري في جامعة القاهرة، وأشاد بهما في مذكراته. يصف لالاند بأنه “مفكر عظيم” أثر في صياغة رسالته للماجستير، بينما يُبدي احترامًا لكويري الذي أشرف على رسالته بعد مغادرة لالاند. كما يُشيد بماسينيون، واصفًا إياه بـ”العظيم” لعمق أبحاثه في التصوف الإسلامي. لكنه في مرحلة لاحقة من حياته، كما يظهر في كتابه “الدفاع عن القرآن ضد منتقديه”، يتحول إلى نقد المستشرقين، خاصة فيما يتعلق بتفسيراتهم للقرآن والنبي محمد، معتبرًا أن بعض أعمالهم تحمل تحيزات أو أخطاء، مثل التشابه المزعوم بين القرآن والإنجيل أو تفسير لفظ “أمي”.
الفلاسفة الغربيون: تأثر بدوي بشدة بالوجودية الأوروبية، خاصة مارتن هايدجر، الذي يُعتبره بعض المهتمين أول فيلسوف وجودي مصري بسبب هذا التأثير. في مذكراته، يتحدث عن تأثره بكيركيجارد، ويعتبر فلاسفة مثل نيتشه وسارتر وهيدجر “تلاميذ” كيركيجارد، رغم عدم معاصرتهم له، في محاولة لإعادة صياغة العلاقات الفكرية بطريقة غير تقليدية. يُظهر بدوي إعجابًا بأسلوب هؤلاء الفلاسفة في تناول قضايا وجودية مثل الموت والزمن، وهو ما يتضح في رسالته للدكتوراه “الزمن الوجودي”، التي أشاد بها طه حسين قائلاً: “أشاهد فيلسوفًا مصريًا للمرة الأولى”.
الأماكن الغربية: زار بدوي العديد من الدول الغربية، مثل فرنسا وسويسرا، حيث عمل كملحق ثقافي في سويسرا (1956-1958). في مذكراته، يصف زملاءه الدبلوماسيين بـ”الجهلة والمنافقين”، مما يعكس نظرته النقدية للبيروقراطية الغربية. في باريس، حيث استقر في نهاية حياته، يُظهر إعجابًا بالمناخ الفكري، خاصة في السوربون، لكنه ينتقد بعض الممارسات الأكاديمية، مثل قبول أطروحات دون مراجعة دقيقة، معتبرًا أن فرنسا كانت تهتم بإعادة الطلاب إلى بلدانهم أكثر من جودة الأبحاث.
2. الآخر الصديق
بدوي، في مذكراته، لا يركز كثيرًا على العلاقات الشخصية أو الصداقات بالمعنى العاطفي، بل يميل إلى تقديم شهادات فكرية عن الأشخاص الذين عرفهم. ومع ذلك، هناك إشارات إلى أشخاص كانوا قريبين منه فكريًا أو عاطفيًا:
باول كراوس: المستشرق الشاب الذي عرفه بدوي عن قرب، ويُعتبر لغز موته (انتحار أم قتل) موضوعًا حساسًا في مذكراته. بدوي يتحسر على عدم قدرته على كشف تفاصيل هذا الحدث، رغم معرفته الشخصية بكراوس، ويلمح إلى احتمال تورط جهات صهيونية، لكنه لا يقدم تفاصيل إضافية، مما أثار خيبة أمل بعض القراء الذين توقعوا منه استقصاء أعمق.
طه حسين ومصطفى عبد الرازق: على الرغم من نقده اللاذع للعديد من أعلام عصره، يُظهر بدوي احترامًا كبيرًا لطه حسين، واصفًا إياه بتقدير فكري وأسلوبي، ويُشيد بمصطفى عبد الرازق لدوره في تطوير الفكر الإسلامي. هذه العلاقات تبدو أقرب إلى الإعجاب الفكري منها إلى الصداقة الشخصية.
بشكل عام، بدوي لا يخوض في تفاصيل عاطفية عن أصدقائه، مما يعكس أسلوبه الجاف في المذكرات، حيث يركز على الأحداث والأفكار أكثر من العلاقات الإنسانية.
3. الآخر الزميل
بدوي كان قاسيًا جدًا في نقده لزملائه من الأكاديميين والمفكرين، وهذا أحد أبرز ملامح مذكراته، حيث أثار جدلاً واسعًا بسبب هجومه على رموز فكرية وسياسية عربية:
عباس العقاد: وصفه بـ”جبل أجرد”، متهمًا إياه بالسطحية الفكرية وعدم العمق.
أحمد أمين: اتهمه بأنه “حقود وحسود”، مشيرًا إلى أن أحمد أمين كان يفتقر إلى الإبداع الفكري.
زكي نجيب محمود: قلل من شأنه قائلاً إنه “درس عن بعد”، مشككًا في قيمة إسهاماته الفلسفية.
عبد الوهاب عزام: وصفه بـ”إسلامي انتهازي”، متهمًا إياه بالنفاق الفكري.
أحمد فؤاد الأهواني: اعتبره “سطحيًا”، مشيرًا إلى ضعف إنتاجه الأكاديمي.
محمد الطالبي ومحي الدين صابر: هاجم رسالتيهما للدكتوراه في السوربون، واصفًا إياهما بـ”فارغتين بلا قيمة”، وانتقد النظام الأكاديمي الفرنسي لقبوله مثل هذه الأطروحات.
هذه الانتقادات أثارت استياء المثقفين المصريين، حيث اعتبر البعض أن بدوي تجاوز حدود النقد إلى الإساءة الشخصية، مما جعل مذكراته تبدو كـ”لوحة شتائم” أكثر من كونها سيرة ذاتية. ومع ذلك، يُشير البعض إلى أن بدوي كان منصفًا مع من يستحقون الإشادة، مثل طه حسين ومصطفى عبد الرازق، مما يعكس نزعته إلى الإنصاف رغم حدة أحكامه.
4. انطباعاته عن أعلام عصره وسياسييه
بدوي لم يقتصر نقده على المفكرين، بل امتد إلى السياسيين والأحداث التاريخية، مما جعل مذكراته شهادة سياسية واجتماعية على عصره:
جمال عبد الناصر: هاجم بدوي النظام الناصري بشدة، معتبرًا تأميم قناة السويس محاولة لكسب الشهرة وليس إنجازًا حقيقيًا. كما قلل من أهمية المشاركة الشعبية في تشييع جنازة عبد الناصر، قائلاً إنها تعكس “هواية المصريين في المشي في الجنازات” وليست دليلاً على الحب. كما اتهم عبد الناصر بتسييس التعليم وتحويل الطلاب إلى “جواسيس على بعضهم”.
سعد زغلول: اتهمه بالعمالة للبريطانيين، وهي تهمة مثيرة للجدل أثارت غضب الكثيرين نظرًا لمكانة زغلول كرمز للوطنية المصرية.
طه حسين: رغم إشادته بطه حسين كفيلسوف ومفكر، اتهمه بدوي بالعمالة للأجهزة الأمنية، وهو اتهام لم يقدم عليه دليلاً واضحًا، مما أثار انتقادات حول مصداقيته.
الشيخ محمد عبده: هاجم بدوي الشيخ محمد عبده، معتبرًا أن إسهاماته الفكرية مبالغ فيها، وهو ما أثار استياء المثقفين الذين يرون في عبده رمزًا للتجديد الإسلامي.
توفيق الحكيم وعلي الجارم ومصطفى أمين: شملتهم انتقادات بدوي اللاذعة، حيث وصفهم بأوصاف قاسية دون تفصيل واضح في بعض الأحيان، مما جعل البعض يرى أن نقده كان أقرب إلى الانتقاص منه إلى النقد البناء.
هذه الانتقادات جعلت مذكراته مثار جدل، حيث رأى البعض أنها تعكس جرأة فكرية، بينما اعتبرها آخرون هجومًا شخصيًا غير مبرر. يُشير الناقد محمد الجوادي إلى أن بدوي حاول إيجاد وصف مميز لكل شخصية، حتى لو كان مختلفًا معها، لكنه غالبًا ما وقع في فخ القسوة اللفظية.
5. ما رآه جيدًا من الكتب
بدوي، بصفته مثقفًا موسوعيًا، أشار في مذكراته إلى أعمال أثرت فيه أو اعتبرها ذات قيمة، سواء من إنتاجه الخاص أو من أعمال الآخرين:
من إنتاجه الخاص:
“الزمن الوجودي”: رسالته للدكتوراه التي أشاد بها طه حسين، وتُعد من أبرز أعماله الفلسفية، حيث تناول فيها قضايا الموت والزمن في الفلسفة الوجودية.
“من تاريخ الإلحاد في الإسلام”: كتاب أثار جدلاً واسعًا بسبب تناوله لموضوع حساس، لكنه يعكس جرأته الفكرية واهتمامه بتاريخ الفكر الإسلامي.
“شطحات الصوفية”: يُظهر فيه إعجابه بالتصوف الإسلامي، ويُعتبر من أعماله التي تُبرز قدرته على التحليل العميق للنصوص الصوفية.
“جيته – الديوان الشرقي للمؤلف الغربي”: ترجمة وتحليل أظهر فيه إعجابه بالتقاطع بين الثقافة الشرقية والغربية.
“الدفاع عن القرآن ضد منتقديه”: يعكس تحولاً في فكره لاحقًا نحو الدفاع عن الإسلام، ويُظهر اهتمامه بالرد على المستشرقين.
أعمال الآخرين: بدوي لم يُركز كثيرًا على تقييم كتب زملائه بشكل إيجابي، لكنه أشاد بأعمال المستشرقين مثل ماسينيون وكرواس في مرحلة مبكرة، خاصة في مجالات التصوف وتاريخ العلم العربي. كما أبدى إعجابًا بأعمال طه حسين ومصطفى عبد الرازق لعمقها الفكري.
6. ما رآه غير جيد من الكتب
بدوي كان قاسيًا في تقييمه لأعمال زملائه، خاصة في المذكرات، حيث قلل من قيمة العديد من الأطروحات والكتب:
رسائل الدكتوراه في السوربون: هاجم رسائل زملائه مثل محمد الطالبي ومحي الدين صابر، واصفًا إياها بـ”فارغة بلا قيمة”، وانتقد النظام الأكاديمي الفرنسي لقبوله مثل هذه الأعمال.
أعمال العقاد وأحمد أمين: اعتبرها سطحية وتفتقر إلى العمق الفلسفي، دون أن يحدد كتبًا بعينها، لكنه أشار إلى أن العقاد كان “جبلًا أجردًا” وأن أحمد أمين يعاني من الحسد.
كتب زكي نجيب محمود: قلل من قيمتها، مشيرًا إلى أن إسهاماته الفلسفية لم تكن على المستوى المطلوب.
هذه الانتقادات، كما أشار بعض النقاد، كانت أقرب إلى الهجوم الشخصي منها إلى النقد الأكاديمي، مما أثار استياء المثقفين الذين رأوا فيها إجحافًا بقامات فكرية كبرى.
7. تقييم أسلوب المذكرات
مذكرات بدوي ليست سيرة ذاتية تقليدية، بل هي، كما وصفها البعض، “شهادة على عصره” أو “ملحمة” فكرية. النقاد أشاروا إلى عدة نقاط:
الاستطراد: بدوي أثقل النص بالاستطرادات التاريخية والجغرافية عن الدول التي زارها، مثل إيران وليبيا ولبنان والكويت، مما جعل المذكرات تبدو كموسوعة أكثر منها سيرة شخصية. هذه الاستطرادات، رغم قيمتها التاريخية، أثقلت النص وجعلته صعب القراءة للبعض.
اللغة القاسية: يُنتقد بدوي بسبب أسلوبه الحاد والجاف، بعكس لغته الشاعرية في كتب مثل “شهيدة العشق الإلهي”. هذا الأسلوب جعل المذكرات تبدو كـ”لوحة شتائم” في بعض الأحيان.
غياب البعد الشخصي: المذكرات تفتقر إلى الحوارات الداخلية أو الهموم الشخصية، مثل تجاربه العائلية أو قلقه الوجودي، مما جعلها أقل إنسانية مما توقعه القراء.
القيمة التاريخية: رغم الانتقادات، تُعتبر المذكرات وثيقة مهمة لفهم القرن العشرين من منظور فيلسوف مصري عاش في بيئات متنوعة، وتُظهر عبقريته في التحليل والاستقصاء، حتى لو كانت انتقاداته مثيرة للجدل.
8. خلاصة
مذكرات عبد الرحمن بدوي في “سيرة حياتي” تُعد مرآة لعصره أكثر من كونها سيرة ذاتية شخصية. تعكس نظرته للآخر الغربي إعجابًا مبكرًا تحول إلى نقد في مرحلة لاحقة، خاصة مع المستشرقين. أما الآخر الصديق والزميل، فكان بدوي قاسيًا في تقييمه لهم، موجهًا انتقادات لاذعة لأعلام مثل العقاد وأحمد أمين وزكي نجيب محمود، مع إشادات نادرة لطه حسين ومصطفى عبد الرازق. سياسيًا، هاجم النظام الناصري وسعد زغلول وغيرهم، مما جعل مذكراته مثيرة للجدل. فيما يتعلق بالكتب، أشاد بأعماله مثل “الزمن الوجودي” و”من تاريخ الإلحاد في الإسلام”، بينما قلل من قيمة أعمال زملائه. رغم قسوة أسلوبه واستطراداته، تظل المذكرات وثيقة فكرية غنية تعكس عبقرية بدوي ونزعته الاستقصائية، لكنها تفتقر إلى الدفء الإنساني الذي يتوقعه القارئ من سيرة ذاتية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى