طه خليفه يكتب :الحج.. في زمن انفلات الأسعار..!

أدت والدتي فريضة الحج عام 2008، بتكلفة 18 ألف جنيه.
وذهبت أنا للحج العام التالي 2009 من قطر، ودفعت للحملة 12 ألف ريال، بما يعادل 3287 دولاراً، أي 18 ألف جنيه، حيث كان سعر الدولار حينئذ يساوي 5.5 جنيهات.
هذا العام 2025 تؤدي زوجتي الفريضة بتكلفة 270 ألف جنيه ضمن الحج الرسمي لوزارة الداخلية (يُسمى حج القُرْعة).
وهذا الحج لا يتضمن وجبات ساخنة، إنما معلبات بكميات محدودة لا تُسمن ولا تغني من جوع، أي أن هناك تكلفة طعام إضافية يتحملها الحاج، تفرض عليه عبئا مالياً كبيراً بالجنيه؛ ذلك أن الريال السعودي يعادل حالياً ما يقرب من 13.5 جنيهاً.
*****
رسوم الحج الرسمي التي من المفترض أن تناسب غالبية الناس، بلغت 220 ألف جنيه، وثمن تذكرة الطائرة 46.600 جنيه.
وهناك فحوصات طبية، وتطعيمات، وأوراق يجهزها الحاج على نفقته، تبلغ 3.500 جنيه، أو تزيد.
هناك أنواع أخرى من الحج، وهي الحج السياحي، عبر شركات السياحة والسفر، ويتضمن مستويات مختلفة، والحج التابع للجمعيات الأهلية. وهناك حج مباشر بتأشيرات خاصة، وهو ليس منظماً ضمن الأنواع الثلاثة للحج في مصر: الرسمي، والسياحي، والجمعيات.
وهذه الأنواع من الحج يبدأ سعرها من 260 ألف جنيه للبري، ويتجاوز مليون جنيه في السياحي الفاخر حيث الإقامة المميزة في فنادق خاصة بجوار الحرمين الشريفين في مكة والمدينة
دعنا من الحج الخاص بالصفوة، فهؤلاء تتوفر لديهم الاستطاعة، خاصة المالية، إنما المشكلة في تكاليف الحج لعموم الناس الراغبين في أداء الفريضة، والذين تهفو قلوبهم للذهاب إلى الأماكن المقدسة.
*****
هذا ليس مقالاً شخصياً، إنما تكاليف الحج التي أوردتها في بداية المقال خلال عهد مبارك، ثم هذا العام في العهد الحالي، هي تبيان واضح للانفلات في الأسعار الذي لا يقتصر على الحج وحده، بل يشمل كل شيء.
لم يفلت من طاحونة الغلاء، وحريق الأسعار، أي شيء، وهذه قاعدة ليس لها استثناء.
ربما فقط قيمة الإنسان هي التي تتآكل، مثل لب الأزمة في محرقة الغلاء، وانقلاب وضع وطبيعة ونمط العيش والحياة في المحروسة، بعكس ما كان سائداً طوال عقود وعهود حكم سابقة.
لب الأزمة هو انخفاض قيمة الجنيه، أمام الدولار ومختلف العملات الأجنبية والخليجية.
وأزمة الجنيه وانعكاساتها على مجمل الأوضاع في مصر بدأت في 3 نوفمبر2016، وهو تاريخ أول تحرير لسعره في العهد الحالي، فانخفض بنسبة 48%، وبدأت قيمته الشرائية تضعف، ولم يتوقف التحرير، أو ما يُسمى تعويم الجنيه عند هذه المرحلة فقط حيث كان ممكناً احتمال الموجة السعرية المرتفعة لو توقف التعويم عند المرة الأولى له.
*****
المصري بطبيعته يسعى للتأقلم، وتدبير نفقاته بما في جيبه مستنداً لحائط تاريخي من الصبر.
لكن قفزت الأسعار بشكل هائل مع تواصل تخفيض قيمة الجنيه، ولا يزال هذا الوضع القاسي مستمراً حتى اليوم، فالدولار كان يتم تداوله قبل أول تعويم في 2016 بـ7 جنيهات، واليوم يقترب من 51 جنيهاً.
وراء التخفيض المتتالي للجنيه شرط لصندوق النقد الدولي الدائن لمصر بأرقام قياسية لم تشهد البلاد مثلها منذ الاستدانة الشهيرة في عهد الخديوي إسماعيل.
يفرض الصندوق حزمة شروط، والقاهرة تستجيب ظنًّاً منها أن في ذلك إصلاحاً للاقتصاد، وضمن الشروط تخفيض دعم الطاقة والكهرباء والمياه ومختلف الخدمات الحكومية.
وحتى رغيف الخبز نفسه الذي كان خطًّاً أحمر لا يتم تجاوزه رفعت الحكومة سعره المدعم بنسبة كبيرة، والخبز الحر متروك للعرض والطلب، صحيح أن الحكومة تتدخل في تحديد وزنه وسعره، لكن واقعياً تتصرف المخابز وفق ما تريد.
*****
لم تسلم فريضة الحج من اشتعال الأسعار، فمن يرغب فيها عليه أن يتجهز بأكثر من 300 ألف جنيه. وهذا المبلغ لـ حج فيه تقشف، حيث يشمل الرسوم وتذكرة الطائرة، وثمن الهدي، ومصاريف وجبات طعام وشراب بسيطة، وهو مبلغ ليس سهلاً تجميعه.
وإذا أراد الحاج شراء هدايا للعائلة والأقارب والأصدقاء فإن عليه أن يضيف مئة ألف جنيه لهدايا عادية رمزية.
فالهدية التي ثمنها مئة ريال مثلاً هي بـ1350 جنيها، وفي يوم ما كان الجنيه بـ3 ريالات وأكثر، وإلى ما قبل مأساة التعويم كانت القيمة متقاربة، ولم يكن الفارق واسعاً بين الجنيه وبين العملات الخليجية التي كانت تزيد عليه بفوارق معقولة.
*****
قد تقول لي، إن الحج لمن استطاع إليه سبيلاً.
هذا صحيح، لكن الاستطاعة متغيرة بتغير الزمان والمكان.
هناك استطاعة البدن، والقدرة على التحمل، وتوفر الدابة والمؤنة قديماً، ثم اليوم هي استطاعة توفير المال للحج بوسائل مريحة وظروف أفضل من السابق.
لكن ماذا عن عدم الاستطاعة عندما تكون نتاج سياسات عامة تقود إلى أزمات اقتصادية معيشية.
وهذه ليست ظروفاً خارجة عن الإرادة البشرية، مثل مسافات السفر الطويلة، ووعورة وخطورة الطريق، وضعف الجسد والمرض خلال الرحلة، كما كان في عصور مضت، إنما الظروف التي تجعل الحج صعباً في نفقاته، وعدم القدرة عليها، مصدرها أداء سياسي واقتصادي ورسم خطط غير موفقة تنتج عنها الأزمات والغلاء والتضخم والركود وفقدان العملة الوطنية لقيتها.
وهنا لابد أن تكون تكلفة الحج ضخمة وخارج قدرة كثيرين كانوا في دائرة الاستطاعة من قبل.
في تجارب بلدان تعيش أوضاعاً مشابهة لمصر، لكن الإدارة فيها تتسم بالرشد، والتخطيط السليم، والإنصات للأفكار والآراء المتعددة المتعارضة للخروج بخطط تنمية موزونة وآمنة، فإنه حتماً يكون انعكاس التأني والاتزان على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية جيداً ومقبولاً لدى مختلف شرائح المجتمع.
وبالتالي ستكون تكاليف الحياة، ومستويات الأسعار متوازنة، وضمن ذلك تكاليف الحج التي كانت في استطاعة كثيرين حتى وقت قريب، ولم تعد كذلك اليوم.