قراءة نقدية في نص” مزامير قلب “للشاعرة رشا السيد أحمد من إنجاز فاطمة عبدالله

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله لنص” مزامير قلب ” للشاعرة رشا السيد أحمد .
Psalms of the Heart”: A Reading in the
Representations of Love, Sanctity, and Self-Identity.
“مزامير قلب”: قراءة في تمثلات الحب والقداسة والهوية
الذاتية.
شهد الشعر الحديث، منذ بداياته مع حركة الحداثة، تحولات جذرية في بنيته ومقاصده، تمثّلت في كسر الأوزان التقليدية، وتجاوز المعاني المباشرة، والارتهان إلى الذات بوصفها مركزاً للقول الشعري. ومع انتقال الخطاب الشعري إلى ما بعد الحداثة، أصبحت الذات المتكلمة لا تعبر عن وعي فردي فقط، بل تتقاطع مع السياسي والديني و الأسطوري، وتنتج خطاباً معقداً يقوم على الانفتاح الدلالي، والتناص، وتفكك المرجع الواحد.
في هذا السياق، تندرج قراءة نص “مزامير قلب”، حيث يتداخل العشق الصوفي بالهوية الذاتية، ويتحوّل القول الشعري إلى تجربة روحية وجمالية تتوسل برموز متعددة وتختبر حدود اللغة والمعنى.
يمثّل نص “مزامير قلب” تجربة وجدانية شعرية تنتمي إلى فضاء الكتابة الحديثة، حيث يتقاطع العشق بالتصوف، ويتداخل الوطن بالحب، وتنصهر الذات الفردية في الجماعة. وهو نص يرفض القوالب التقليدية للقول الشعري، ويستعير عناصر من التراث الديني والوجداني لصياغة تجربة ذاتية تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية، لتتحول إلى خطاب كوني مفعم بالتوتر الجمالي والروحي.
البنية والدلالة
تتجلى الحداثة في هذا النص من خلال انفتاح بنيته النصية وتجاوزها التسلسل الخطي التقليدي، لتصبح المعاني متعددة ومفتوحة على التأويل. فالتراكيب اللغوية تميل إلى الرمزية والانزياح الدلالي، كما في:
“قلوبهم نار وصلاة، قلق وطمأنينة، كتاب ومزامير”
“عيناه صفاء جواره البراكين”
هذه الثنائيات المتجاورة لا تحل بل تتعايش ضمن توتر دائم، بما ينسجم مع مقولة جاك دريدا: “اللغة ليست وعاءً للمعنى، بل شبكة من الاختلافات والتأجيلات.”
فالنص يخلق معنى من خلال التوتر بين الدال والمدلول، لا من خلال ثباتهما، بما يعكس مبدأ الإرجاء الدلالي (Différance) الذي يبقي المعنى مؤجلاً و معلقاً ضمن شبكة من العلاقات النصية.
سؤال المعنى والغياب
يقوم النص على ثنائية الحضور والغياب: فالحبيب، وإن غاب، يظل حاضراً في الذاكرة والنص والشهيد رغم موته يبقى رمزاً للخلود:
“لا تغيب عني، حتى في غيابك، تظل حاضراً.”
هذا التوتر يستدعي مفهوم “الحضور المؤجل” لدى دريدا حيث لا يوجد المعنى في ذاته، بل في علاقته بغيابه. ومن ثم، فالنص يشتغل على إنتاج دلالات تؤسس على الغياب لا على الامتلاء، ما يخلق حالة من الانفتاح والتأويل اللامحدود.
الحبيب كامتداد للذات
من منظور التحليل النفسي، يمكن فهم الحبيب في النص بوصفه صورة مثالية (Ideal Ego)، تسقط عليها الذات الشاعرة رغبتها في الصفاء و النقاء والمقاومة. فهو ليس فقط موضوعاً للهوى، بل نموذج روحي وسياسي: شهيد، نبي، محارب، وعاشق.
هذا التماهي يعكس انشطار الذات بين الرغبة والقدوة، وبين الحب والبحث عن الأمان، ما يكشف عن ذات متشظية تتنقل بين مواقع الهوية والعشق، وتبني كينونتها عبر صورة الآخر المثالي.
وهو ما يقارب تصور جاك لاكان حول “مرحلة المرآة”، حيث يستخدم الآخر لبناء صورة مكتملة عن الذات.
المقاربة الرمزية-الأسطورية
يستحضر النص رموزاً من التراث التوراتي والإسلامي، مثل “مزامير، سليمان، بلقيس، النبي”، لا بوصفها إشارات تاريخية، بل كعلامات رمزية تفعّل عبر آلية التناص مع المتون الدينية والأسطورية، بما يضيف للنص عمقاً تأويلياً وتاريخياً متعدد المستويات :
سليمان: رمز الحكمة والقوة الروحية.
بلقيس: رمز الفتنة المقدسة التي تهز الممالك.
المزامير: رمز الصلاة والاتصال الإلهي.
بهذا يندرج النص ضمن ما يسميه جوزيف كامبل بـ “رحلة البطل”: رحلة الذات من العالم العادي إلى المقدس، ومن الحب الإنساني إلى التماهي مع العشق الأعلى.
كما يمكن اعتبار بعض الإشارات الدينية والأدبية بمثابة ميتانص، إذ يحيل النص إلى ذاته وإلى فعله الكتابي بوصفه طقساً جمالياً وتأويلياً يعيد إنتاج المعنى لا نقله. وهذا يظهر وعياً نصياً بالكتابة كفعل وجودي، لا مجرد وسيلة للتعبير.
البعد الصوفي و تجليات العشق الإلهي
تحضر النزعة الصوفية في النص بشكل جلي، حيث يتخذ الحب بعداً روحانياً يتداخل فيه الإنساني بالإلهي في قول الشاعر ة : “قلوبهم نار وصلاة”، تتجاور النار كعاطفة محرقة، والصلاة كتحقق روحي، بينما تعكس عبارة: “تملأ الروح براحة اليقين” حالة الفناء الصوفي في المحبوب. تتجلى في هذه الصور بنى العشق الصوفي التي نجدها في تجارب كبار المتصوفة، إذ تحضر مفاهيم الفناء، البقاء، الوجد، والكشف، ويستدعى الغياب كـ حجاب يولد التجلي، ويصبح العشق بوابة لانكشاف الذات على المطلق.
وبهذا، يتقاطع النص مع خطاب ابن عربي، حيث يتحول الهوى إلى طريق للفناء في الحبيب، والذات إلى أفق منفتح على اللامتناهي، ما يضفي على النص بعداً خطابياً متعالياً يتجاوز التجربة الذاتية المحدودة نحو ما يشبه الوحي أو الكشف الصوفي.
وتنفتح تجربة “مزامير قلب “على نصوص صوفية وشعرية سابقة، تعمق حضور العشق بوصفه تجربة وجودية وجمالية. فالنص يستحضر لغة الحلاج في توحده العشقي بين الذات والمحبوب: “أنا من أهوى ومن أهوى أنا”، حيث يذوب الحد بين الـ”أنا” و الـ”هو”. كما يوازي هذا التماهي ما نجده عند ابن الفارض، الذي جعل من الحب طريقاً للتجلي والوصول الروحي. أما في الشعر العربي الحديث، فيحضر صدى محمود درويش في استدعاء الحبيب كرمز متعدد الدلالات للهوية والانتماء، مما يجعل من العشق أداة مقاومة رمزية و وجدانية تتجاوز البعد العاطفي إلى أفق كوني وسياسي.
بين الرمز والغياب، بين الذات والآخر
إن “مزامير قلب” ليس مجرد نص غزلي أو تأمل وجداني، بل هو نص يعيد صياغة تجربة الحب بوصفها حدثاً جمالياً وروحياً و وجودياً يتجاوز المألوف الشعري. تميزه يكمن في قدرته على تفكيك الحب من صيغته العاطفية البسيطة، وإعادة بنائه كخطاب معقد يتداخل فيه الصوفي بالسياسي، و الفردي بالجمعي، و الذاتي بالأسطوري.
في هذا الإطار يعد هذا النص محاولة واعية لتجاوز الغزل التقليدي نحو شعرية مقاومة، حيث يتحول العاشق إلى نبي أو شهيد، وتصبح العلاقة بالآخر مرآة لتكوين الذات لا استهلاكاً للعاطفة.
كما أن الانفتاح الأسلوبي وتعدد المرجعيات يمنحان النص مرونة دلالية تجعله قابلاً للقراءة في ضوء مقاربات متعددة . وبهذا، يسهم النص في تجديد خطاب الحب العربي، عبر تقديم تجربة شخصية تنفتح على الكوني، وتعيد للقصيدة دورها الوجودي لا التزييني.
إنه نص يعبّر عن مقاومة داخلية ضد التفاهة، ضد التسطيح، وضد الاستهلاك الشعري للعاطفة، ليؤسس لخطاب حب يعانق الغياب، ويستدعي الغائب، ويمنح القارئ دوراً تأويلياً خلاقاً في إنتاج المعنى.
…………………. …………… ….
النص :
مزامير قلب
منذ سمعت وصايا الصاعدين للسماء من الشهداء ادركت أن الأحياء هم قلة
وأدركت بأن السماء تصطفي أولا الأنقياء و أن تركت بعضا منهم يعمرون الأرض و أنت كما أنت ما زلت تجمع بين الدفاع عن الوطن والحب وتدافع عنهما بشراسة فاتح لا يهاب المنايا
وأحبك بجنون أمواج همها تصل الشاطىء لترمي بنفسها على صدره وتستريح بسلام
يا للعاشقين قلوبهم نار وصلاة قلق وطمأنينة كتاب و مزامير
قرب وبعد !!
و أنت كما أنت في مقامات الروح
لا تغيب عني حتى في غيابك تظل حاضرا تشاكسني
لا أعرف كيف سكن في عينيك كل هذا الصفاء وجاورتها البراكين !!
يا لسليمان الذي أوقعته بلقيس في عشقها
كم حمل في قلبه من عشق وعنفوان و نقاء يا وجهه وجه النبي
النقي
ويا تلك الطقوس التي لا يعرفها إلا العاشقين العاشقين كم تملىء الروح براحة اليقين
اسمع أيها القصي القريب
ما زلت أرسم من همس بوحك قصائدا خضراء لا يتعبها الزمن وأسير معك دونا عن الكون .
#سيدة المعبد