حمزه الحسن يكتب :موت الواقع

ــــ يتوارى الواقع ليس عن منتقديه فحسب،
بل حتى عن الذين يدافعون عنه. * جان بودريار، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي.
في مراحل التحولات العاصفة الحربية او السياسية او الهزات الاجتماعية، يحدث ما يسمى” انهيار المعايير” وهي التي كانت تضبط الايقاع الاجتماعي مع” الأدوار” الوظيفية : الطبيب لا يمكن ان يصبح جلادا، والمهندس لا يمكن أن يتحول الى نصاب ومتلاعب، وماسح الاحذية لا يمكن ان يتحول الى مدير الانواء الجوية، وكذلك الادوار الطبيعية التي تفصل بين الحدود في العائلة ولو حدث انقلاب الادوار سيكون المجتمع في حالة فوضى وفي هذه المرحلة تظهر الكثير من العاهات ومع الوقت تطبّع وتصبح ” عادية” وتلك علامة سقوط شامل وشيك.
عندما لا يستطيع الانسان التعبير عن مشاعره وأفكاره بسبب الخوف،
ينزل للقيعان السرية لبناء عالم تخيلي، هناك يعمل اللاوعي على تحقيق كل ما فشل الوعي وسطح الواقع من تحقيقه من أحلام سوية وبسيطة وعادلة أو منحرفة،
بل يذهب أبعد من ذلك لتحقيق بطولات خارقة، وعمليات انتقام أسطورية من أعداء النهار،
لكنه في الصباح يكتشف بؤسه وعجزه أمام أول عابر طريق أو جار لكي تبدأ لعبة المراوغة وتعدد اللغة مع عدد الذين يلتقي بهم للتحاشي والتجنب وصناعة شخصية لكل شخص ومناسبة ومكان حسب الموقع والمصلحة مادية او معنوية.
تشظي اللغة يحوّل الانسان الى أنقاض ومخزن أمراض بالكاد يعرف من هو لأنه يقول شيئاً ويفكر بآخر،
ويسحق البنية العضوية للذات الطبيعية ويخلق هوية مزورة للتجنب وتعدد الشخصيات في الخفاء ويتم الانتقال من شخصية الى اخرى كالتجول في غرف المنزل بسلاسة ولا توعك وحالاً حسب الظرف لأن بنية تعدد الشخصيات جاهزة ومستقرة وفاعلة في أية لحظة، ومع نموذج من هذا النوع لا تعرف في أي رجل ترقص معه.
وهو ما يسمى عادة النفاق أو الازدواجية لكن هذا ليس التوصيف الأعمق بل العنوان لشبكة اضطرابات خفية.
عالم داخلي سري يتناقض مع الواقع الخارجي. بهذه الطرق طاردت الدكتاتورية الناس ــــــــــ كذلك منظومات العقاب الاجتماعية الوجه الخلفي للسلطة ـــــــــ العقاب على النوايا المكتشفة والرغبات الطبيعية السوية،
والاحلام آخر المعاقل السرية للتنفيس ولا مساحة فارغة من حضور السلطة حتى في الخيال، وفي خطاب علني قال صدام حسين:
” كل من يعادي الحزب والثورة عليه أن يعرف أن الأشباح تطاره حتى في النوم” وقد حدث ذلك فعلاً وبكل شفافية ورغم مرور كل تلك السنوات لم أتخلص من تلك الأحلام أحياناً إلا في تحويلها الى نصوص مما لا يستطيعه الانسان العادي. الكتابة تحرر وتنقذ لأنها اعادة قراءة الحدث من زوايا مختلفة غير تلك التي استقرت فيها في ظروف قاسية ولم تخضع لمحاكمة عقلانية.
لكن ماذا يحدث في أعماق الانسان في هذه الحالة؟ التشظي النفسي والمرض والقنوط والدونية والخوف المزمن والتشوهات الفكرية التي تظهر عكس حقيقتها في حيل نفسية متنكرة،
وتقوم الاحلام السرية بالتعويض عن واقع شرس، وعندها تبدأ أخطر عملية في الذات وهي الانتفاخ المرضي لضخامة الأحلام والأوهام،
وهذه الذات المنتفخة المريضة تجد فرصتها في انهيار النظام وزوال المكبس والكابح عن مخزن العفن:
يخرج السر الى العلن ويتحول المكبوت الى الفعل، وتصبح شهوة الانتقام السرية علنية،
ويُصدم الناس من مظهر الجيران والأصدقاء الجديد، وهو ليس جديداً في الحقيقة بل كانوا متنكرين ومختفين في قيعان نفسية عميقة. خرج الوحش النائم في الاقبية العميقة.
لم يعد هناك اللاوعي القديم والاحلام السرية بل وحدها الذات المنتفخة
تحقق وجودها على بشر حطام وعزل وهذه فرصة للكائنات التي عاشت بدونية وجبن وانعدام الاحترام الذاتي للتعويض والتنفيس والبحث عن مكانة،
في حين التعويض والانتقام الحقيقي من الماضي
هو بناء ذات سوية ــــ دولة عادلة،
وليست دولة تشبه أحلام القبو النفسي السري.
هكذا كانت معارضة الأمس وسلطة اليوم: معارضة أحلام ومشاعر تعويض وإنتقام، وليست معارضة مشروع نهضة.
هل نحن اليوم في الزمن نفسه؟ معارضة القبو السري في غياب البديل؟
عندما ينهار القبو السري النفسي،
تخرج في الفوضى كل الاستيهامات والاحلام والأوهام السرية لتفرض حضورها القاتل كتعويض عن سنوات الخوف والدونية،
وفي غياب نظام سياسي عادل تتحول السلطة والدولة إلى أشباح وقوى تتجاوز المركز للأطراف. لم يعد أحداً يشبه ما كان عليه: انهارت المعايير والأدوار وصار كل فرد يحلل ويحرم حسب مصالحه.
مات اللاوعي القديم وخرج الوحش او الذئب وتحول الى افعال ووعي،
لم تعد هناك الأحلام السرية لأن المواطن يحقق ما يريد على أرض الواقع ونحن أمام أكثر من مواطن:
مواطن السلطة والمواطن الآخر المقصي ومواطن الاجهزة والمؤسسات والاتباع والحاشية وكل شريحة لها معاييرها وأحكامها وسقوط المعايير العامة التي كانت تضبط الايقاع الإجتماعي.
لم نعد شعبا كما في السابق في صراع واضح بين سلطة ومجتمع بل صرنا” حشوداً” والحشود لا تفكر حسب أميل سيوران ، الحشود تعني الولاء وهو يعني الغاء التفكير” حشود تلعن وحشود تصفق ثم تلعن وتصفق” بل يصبح التفكير من واجبات مؤسسات وشخصيات في استقالة عقلية علنية.
تصبح الشطارة دهاءً، وتصبح البراءة غباءً، ويتحول الامين والواضح والشريف ــــ في نظر العامة ــــ الى غبي ومغفل، ويتحول اللص والنصاب الى ذكي وداهية والخ وهلم جرا.
السلطة هنا لا تعني النظام السياسي فحسب كما نفهم عادة بل تعني كل القوى والجماعات المهيمنة وحتى الافراد، وشخص واحد متسلط في عائلة
يخلق من العقد النفسية والامراض في المحيطين به ما تعجز عنه
سلطة فاشية لانه على تماس مباشر وعنيف مع الوسط القريب.
هنا بداية دورة تكرارية لعودة القبو السري بعد العواصف عندما تحول الضحايا الى جلادين في بلد بلا مؤسسات عادلة حقيقية:
الاجترار وتشظي اللغة والاختباء والتربص في قيعان نفسية،
مما يخلق تشظي وتعدد الشخصيات ـــــــــــ مرة أخرى ـــــــ داخل الفرد الواحد، يفعل عكس ما يقول ويفكر، ويحلم عكس ما يفعل في الواقع و” مجمع الشخصيات” هذا نسي من هو ولا يكاد يتعرف على صورته في حشد إلا بصعوبة لأن الصور الذاتية والأقنعة متعددة وهو فرد يتجول في قاعة للمرايا المتقابلة.
أي فقدان الهوية الحقيقية Dissociative identity disorder أو تعدد الشخصيات multiple personality disorder التي تصل مئات الشخصيات في فرد لانه يتحدث مع كل فرد بلغته وحسب موقعه وسلطته عليه وحسب المصلحة،
ومع الوقت تنحفر شخصيات كثيرة فيه ــ وفيها ، ويتم الانتقال السلس بلا وعي من شخصية الى اخرى بتلقائية عادية.
بلغة اخرى ومشاعر وافكار أخرى ويجد مبررات لكل تصرف منحرف،
وكل شخصية من هذه الشخصيات المتشظية لها عالمها الخاص المنفصل عن الشخصيات الاخرى الداخلية لها معايير ومبادئ وتصورات أخلاقية ولغة خاصة بها، وفي حالات يقع التنافر المعرفي بين افكار ومشاعر متناقضة على شكل خوف غامض وقلق وكوابيس دون أن يعرف السبب الحقيقي لكنه يعرف الأعراض.
يُصدم “المصاب” عندما يواجه بحقيقته لانه يعيش هذا التشوه والتعدد السري دون إدراك.
الحفرة ليست مساحة في الأرض، بل مساحة فكرية ونفسية وسياسية أعمق،
ولا يحتاج اكتشاف ذلك غير لحظة صدق ومكاشفة مع النفس. لكن المعضلة كيف تستطيع الذات المزيفة رؤية نفسها؟ كيف يمكن الرؤية في مرايا محطمة أو مقعرة؟ لا يمكن ذلك إلا من خلال ثقافة مضادة ووعي بديل وارادة تغيير حقيقية وقدرة عليه.
لكن من يجرؤ على مواجهة ثعابينه الداخلية؟ هل أستطيع أن أكون كما أريد لا كما يراد لي أن أكون؟هل أنا واحد مع الناس ومع نفسي ايضا؟
هل أقول شيئاً وأفكر بعكسه؟
نحن في هذه الحالة أمام أكثر من شعب وأكثر من مواطن، وأكثر من واقع،
هناك الموالي وهناك المحتج، هناك لغة مواطن السلطة ولغة مواطن الشارع، أفعال مواطن السلطة في الواقع وأحلام مواطن القبو،
الواقع الظاهري والواقع المخفي.
الواقع كائن حي يمرض ويحتضر ويموت لانه تجمع بشري ــــ أين واقع الاتحاد السوفيتي والجمهوريات الاشتراكية في أوروبا الشرقية؟ لقد اختفى ومات وولد واقع جديد مختلف.
في كتابه” الأمل والذاكرة ” وهو خلاصة القرن العشرين يُثبت تزفيتان تودوروف الفيلسوف الفرنسي البلغاري الأصل موت القرن العشرين وولادة آخر من خلال تتبع دقيق لأحداث القرن من قبل مؤلف “شاعرية النثر (1971)”، “مقدمة الشاعرية (1981)”، و “فتح أمريكا (1982)”، ميخائيل باختين : مبدأ الحوارية (1984)”، “مواجهة المتطرف: الحياة الأخلاقية في معسكرات الاعتقال (1991)”، “حول التنوع الإنسان (1993)”، “الأمل والذاكرة (2000)”، “والحديقة المنقوصة : تركة الانسانيه (2002)”.
عندما تجولت في شوارع بودابيست، المجر، وشوارع وارشو ، بولندا، وشوارع براغ ، الجيك، لم أجد التماثيل والشعارات والمؤسسات السياسية والصور والجداريات والقوانين والتقاليد السابقة وحلت محلها أخرى.
في مراحل التحول والمنعطف ـــــ يقول غرامشي ـــــ لا القديم يموت بل ولا الجديد يولد وفي هذه الفاصلة تظهر الكثير من العاهات المرضية”.
هذه لحظة غرامشي في مرحلة وضوح الحدود بين سلطة ومجتمع، بين قيم جديدة في حالة طلق بلا ميلاد وقيم قديمة تحتضر لكن لا تموت،
أما لحظة منعطفنا فهي صراع بين قديم يتفسخ ولا يموت وبين جديد ولد متفسخا، أي ليست صراعات التطور والنمو والحداثة بل صراعات الاستهتار.
الصراع الخافت لن يظل خافتاً، دورة جديدة من التربص في إنتظار رفع المكبس عن البالوعة السرية الجديدة،
وفي أي إنهيار جديد سيخرج المقصي والسري والمكبوت للعلن، كصلال الأفاعي في الرمل.
مع وجود الدولة العميقة السابقة والدولة العميقة القائمة ومع إنسان غاطس هو الآخر في قيعان نفسية عميقة،
ينعدم أي شكل من أشكال الحوار وتصبح اللغة أداة نفي وليست
أداة تواصل وتتحول الحياة إلى حفل تنكري بالاقنعة. الكل في المخبأ السري.
واقع في الظاهر عادي لكنه قناع وواقع مخفي خلف الصور والشعارات والخطابات. هنا مجال عمل الفكر والأدب في كشف النقاب لكن الانشاء
السياسي الباهت لا يساعد على ذلك وعاجز عنه.
في عقلية المخبأ السري نحن أمام عنف عام مؤجل، ويمكن ملاحظة أن الأفراد في دول المنفى الديمقراطية الذين عاشوا في مرحلة عمل سياسي سري أو ظروف قمع،
تهيمن عليهم النظرة الارتيابية وقراءة رسائل مشفرة بوليسية
من أبسط الأفعال لأنه ليس من السهل الخروج من القبو الى الحرية،
ويستدعون مخاوف المكان القديم وتلبيسها على الواقع الجديد:
للقمع طقوس وعادات عميقة والحرية الفتية الطارئة بلا تقاليد.
الحرية ليست ان تتعلمها بل تتربى عليها وهي في كل تفاصيل الحياة
من طريقة الحوار والجلوس والمشي الى دفن الموتى والتحية والاختلاف.
عند الانهيار العام ، سيقال يوماً إن الناس تغيرت كما يقال اليوم،
ليست هذه هي الحقيقة لأن الشعوب تحتاج لسنوات وفي حالات الى قرون لتغيير قناعات وتقاليد ومعتقدات راسخة تحولت الى عادات وتقاليد وطقوس وقوانين وجينات.
بعد سقوط الاندلس بقرون ظل العرب يحتفظون بهويتهم
الدينية وبالاسماء العربية في البيوت وهوية واسماء مسيحية مؤقتة للتحاشي خارجها وكثيرون هاجروا الى المغرب ونقلوا له طراز البناء الاندلسي.
حتى اليوم هناك من يمارس عادات سومرية مثل رش الماء خلف المسافر لعودة آمنة ورمي سبع حجرات خلف من لا نريد له أن يعود. كم حجرة نحتاج اليوم؟
بعض عادات الجاهلية مستمرة حتى اليوم كعقلية الثأر والولاء للعرق والتفاخر بالسلالة والحسب والنسب وليس الموهبة والكفاءة والثقافة والابداع .
كل من يدعي أن الواقع القديم مات ونحن أمام واقع جديد مختلف، هو غبي أو مسطح أو ساذج،
لأن الواقع هو نتاج تراكم قرون وأسبابه لا تظهر للعلن، بل تكتشف في البحث والدراسة والتأمل،
وما يظهر من واقع” جديد” هي واحدة من ألاعيب الواقع عندما يتنكر ويحتجب.
لا الواقع القديم مات، بلغة غرامشي، ولا الواقع الجديد ولد:
الواقع القديم يحتضر ويتفسخ ولا يموت،
والواقع الجديد ولد متفسخاً وطلق بلا ميلاد وعاصفة بلا هبوب،
في الحالتين: تفسخ القديم والجديد بلا موت ولا ميلاد.
هذه أعراض لحظة المنعطف التاريخية وتشوهاتها. خرج الالمان من النازية بعقدة الشعور بالذنب، واتجهوا نحو البناء،
وخرجنا من الدكتاتورية بعقدة الشعور بالغطرسة وانتفاخ الذات المرضي
واتجهنا للخراب.
لا يحدث التغيير حسب اليوم الأخير من التقويم، لا يفيق الناس فجأة ليجدوا أنفسهم ملائكة أو شياطن، هذا تسطيح وقح للذات البشرية،
كل ما حدث وسيحدث هو أقنعة تسقط، وأقبية نفسية تنهار، ومشاعر وأحلام وأفكار ولغة مختبئة تخرج للعلن من بالوعة الجيف السرية ومن انسان متعفن دفن حيّاً داخل جلده ثم خرج الى ضوء النهار او ضوء القمر كما تخرج الكائات الاخرى من جحورها .