حمزه الحسن يكتب :الرصاصة الخاطئة

كتب نجيب محفوظ عام 1961 رواية اللص والكلاب عن سفاح الاسكندرية محمود أمين سليمان عام 1960،
ونشرت الصحف 90 مكاناً للقانل بعد هروبه من السجن،
لكن نجيب محفوظ إحتفظ بعشرين،
وقلب الحكاية كلها لأن الأدب رؤية ذاتية وليس مطابقة مع الواقع، وحول الحدث الفردي الى قضية كبرى،
وحولها المخرج كمال الشيخ الى فيلم،
وفي العام 1998 قدم المخرج أحمد خضر مسلسل اللص والكلاب
في 17 حلقة في 500 مشهد لكنه أحاله الى القاتل الأصلي للتشويق
وغابت رؤية محفوظ الاستثنائية عن ربع قرن من تاريخ مصر.
سعيد مهران في اللص والكلاب غيره القاتل محمود أمين، عن الاختيار والحرية وحدود المسؤولية والخيانة والقسوة،
وصراع الانسان الأعزل والوحيد أمام الشر والخديعة والنذالة.
تبدأ الرواية من خروج سعيد مهران من السجن بعد أن تنكر له الجميع،
حتى إبنته سناء رفضت تقبيله ولم يقف معه في المحنة غير نور الغانية،
وهنا تتجسد عبقرية محفوظ في قلب التراتبية الأخلاقية وكسر النمطية،
تقول له بعد أن خانه الجميع:
” أحطك بعيني وأكحل عليك”.
أسوأ ما في الأدب والحياة حبس الانسان في قالب نمطي: قد لا يكون الطبيب ــــة نزيها وقد يكون المهندس ــة نصاباً وقد يكون السجان رحيماً، الحدود القاطعة بين البشر غير صحيحة، وقد يخونك من تثق به وتمشي خلفه مغمض العينين ويحميك ويصونك ويغامر لأجلك من لا تثق به كثيرا ولا يحمل واجهة أخلاقية اجتماعية لكنه نظيف الروح والقلب.
تذكرني شخصية نور براقصة ملهى ” ألف ليلة وليلة” في شارع السعدون في بغداد ،الهاربة من مدينتي وتعيش باسم مستعار وكنت ، خلال الحملة البوليسية على الشيوعيين واليسار والمستقلين، مطارداً بلا أي إنتماء، واختبأت عندها ليلة واحدة في شقتها في الكرادة وإيواء هارب قد يكلف حياتها، تساوينا: هي هاربة من السلطة الاجتماعية وأنا من السلطة السياسية وكلاهما سلطة واحدة كنهر بروافد تصب فيه لان السلطة شبكة علاقات متشابكة وليست الحكومة كما نختزلها .
هذا ما حذر منها ستاندال في الايمان في الحدود القاطعة النطية.
نور حقا في ظلام سعيد مهران. نجيب محفوظ دقيق في اختيار الاسماء وأدوارها، وتأتي الأدوار مطابقة أو متناقضة مع الأسماء:
* إبنته سناء : معناها الشرف والرفعة، لكنها تتنكر بلا شرف للأب الضحية.
* نور: غانية وراقصة، لكنها تقوم بدور الوفاء المشرف.
* سعيد مهران: وهو حزين، ومهران تعني الذكي والماهر والحاذق،
لكنه مزيج من السذاجة والبراءة.
* رؤوف : الرحمة والحنان والرأفة، لكنه إنتهازي ونذل وخائن،
والمفارقة أنه من أسماء الله الحسنى.
بتعبير نزار قباني:
” إن أقبح ما فينا هي الأسماء”.
يقرر سعيد مهران الانتقام من صانعي مأساته ومنهم رؤوف علوان
المثقف الانتهازي الذي إستغل سعيد مهران لتحقيق المنصب والجاه والثراء،
وفي الوقت نفسه يكتب خطابات منافقة ضد الفساد والباشوات ويدفع سعيد مهران للسرقة وتبريرها له ثم السجن.
خرج سعيد مهران من السجن ووجد أن جميع صانعي مأساته هم أغنياء،
رؤوف علوان ورطه في جريمة وصديقه عليش يتزوج زوجته وابنته تنكرت له كلص، ورغم محاولات الشيخ علي الجنيدي رجل دين وصاحب طريقة في تهدئة قلق سعيد مهران وحثه على الصبر وانتظار انتقام الله،
لكن سعيد مهران يعرف ان صبر الله طويل فيقرر قتل رؤوف وعليش.
يطلق النار على عليش لكنه يقتل خطأ شريكه في العمل،
فيستغرق رؤوف علوان الذي صار رئيس تحرير في وصف الجريمة،
مما أثار غضب سعيد مهران وقرر قتله،
ويتربص به ويقول له وجهاً لوجه:
“أنا سعيد مهران ، خذ”.
يطلق عليه الرصاص لكنه للمرة الثانية يقتل شخصاً بريئاً هو الحارس،
وبعد مطاردة في المقبرة يُقبض عليه.
عاش سعيد مهران وحيداً كضحية، وعندما إختار محفوظ المقبرة مكان صراعه الأخير، ليجسد أعنف حالات القسوة عندما لم يجد مكانأ يأويه غير المقبرة.
إنتهى سعيد مهران في الرواية، وقد يقوم روائي آخر ويقيم تناصاً مع رواية اللص والكلاب، وهو تقليد غير معروف في الرواية العربية،
ويقدم رؤيا جديدة لسعيد مهران والكلاب: الضحايا كثر والقتلة كثر وغالباً ما تخطئ الرصاصة.
كان خطأ سعيد مهران الفادح هذه المرة قناعته أن الرصاصة التي تقتل
الانتهازي واللص المثقف رؤوف قد تقتل الفساد لأنه منظومة متكاملة
وبنية سياسية واجتماعية،
وأنه أطلق النار على الشخص الخطأ والمكان الخطأ، ومرة ثانية يظهر نجيب محفوظ ذكاء وعمق وحدس الروائي في جعله يخطيء الهدف مرتين.
يحضر سعيد مهران في الذاكرة منذ سنوات وخاصة بعد الاحتلال عندما تحول رؤوف” المثقف” الى ظاهرة ونظرية ومنبر ووجهة نظر وموزع صكوك الغفران في حين إنزوى المثقف الحقيقي عن عفة واحترام النفس في هذا الغبار والتشابه والضجيج.
سعيد مهران في نسخته الجديدة اختزالي انتقائي ويختصر المجتمع بحفنة حثالات من الحلقة المحيطة به وهم معياره في الخطأ والصواب وكما كتب علي الوردي منتصف القرن الماضي يقول عندما يتشاجر شخصان في بار للحثالات يقوم أحدهم ويقول للآخر ببنطال مبقع:
” لو لا هذا المجتمع الشريف الجالس معنا، لقتلتك”. تم اختزال المجتمع بهذه العينة المتعفنة وهؤلاء هم حدود العالم ولا شيء ، لا مقاييس غيرهم. بل صارت النجاة والحياة محض مصادفة في حضور هؤلاء.
نكتشف ان رصاصة سعيد مهران ليست خاطئة فحسب بل في الاتجاه الخطأ وقد تقتل رؤوف الانتهازي المفتون بنفسه والمستعرض لها الذي يطل علينا كل يوم ليعرض فتوحاته الكبرى في مدح ذوي القربى الذين لا تنطبق عليهم المعايير الاخلاقية والثقافية ولو عاثوا فساداً،
لكن كلما ابتعدت الدائرة ، ظهر لنا بمعول للسب والشتم بقشرة نقدية ولو رفعنا القشرة الباهتة، سيظهر لنا الوجه الآخر السوقي لرؤوف علوان بعد أن بدل المعطف وليس الموقف ونقل لغة الحانات والشوارع الخلفية الى الأدب تحت عنوان النقد الأدبي أو أي عنوان مزيف .
تلك الرصاصة الخاطئة لن تقتل الفساد الذي تمأسس وتحول الى مؤسسات وتشريعات وقوانين ومراكز قوى ومافيات ومصارف وعقائد وتقاليد ومحطات تلفزة وصحف وعلاقات والخ.
حسب صديق طبيب نفساني في بغداد في علاقة صداقة عميقة معه قال لي من واقع خبرته وسجلاته الطبية:
” إن الاحتيال الثقافي تطور واخطر من الاحتيال السياسي المباشر ولم يعد كالسابق البحث عن حاجات وعواطف مباشرة بلا أقنعة ولا تخطيط ولا صناعة قصص وشخصيات مزورة بل صار هندسة احتيالية مراوغة ومنظومة تخطيط متكاملة جعلتنا نترحم على النصابين القدماء السذج في الاساليب المباشرة كما ان ضحايا علاقات الخيانة والغدر الذين يراجعون العيادة أكثر من ضحايا الحروب”.
نحن أكثر شعوب العالم استعمالاً للمعايير المثالية وأكثرها سحقا لها في التطبيق ولا تمارس إلا على الحلقات البعيدة لكنها لا تستعمل مع الحلقات القريبة لأن هؤلاء “معفيون” منها ولو خرقوا كل قيم الحياة وقواعدها وأعرافها وأخلاقها. كما قال الشافعي:
” وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ ــــــــــ وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا”.
النصائح الموجهة للسياسيين ومن يقف خلفهم من الكتّاب بتحكيم الضمير والعدل والانصاف كالنصائح الى تماسيح لحضور حفل موسيقي للاطفال وكنصائح للذئاب باحترام حياة الخراف لان عقل الذئب في أنيابه وعديم الضمير وحش بشري مقنّع أُطلق على الناس. ما أكثر الأقنعة ــــ ما أقل الوجوه.
يلعن الجميع السياسي اللص وينسى ان خلفه طابور في مكتبه يكتب له خطاباته وينظم علاقاته وينظف خلفه ويسوغ له ومن سوء حظ السياسي انه مسطح وغبي ويمكن قياس عمقه بعود ثقاب،
لكن” اصبعه” المختفي في العتمة يمتلك القدرة لتحويل الجرادة الى فراشة والقط الى أسد ومن المستحيل اقناعه ان الزهور أفضل من القمامة.
في مجتمع يعشق التستر على الجريمة السرية حتى تتضخم وتخرج عن السيطرة ويخاف من العلنية، فمن حسن حظ الروائي انه يستطيع قول وكتابة ما لا يستطيع غيره كتابته، خاصة اذا كان محمياً بقانون وعرف وأخلاق وتقاليد صافية ووثاثق وشجاعة أدبية.
سعيد مهران قُتل في مقبرة كما قتل الابرياء وسيقتلون بالرصاص أو الذل أو العوز لكن سعيد مهران أخطأ الهدف مرات من قبل وسيخطيء.
رؤوف علوان الانتهازي طليق ومتنفذ وحر ولن تقتله كل الرصاصات لانه ليس شخصاً بل منظومة متكاملة في مجتمع ينحدر نحو الهاوية على صوت المآذن وأجراس الكنائس ومناحات التاريخ وطقوسه.
حتى كلاب نجيب محفوظ تغيرت ، لم يعد رؤوف علوان الانتهازي بصحبة عليش وحماية افراد بل صاروا سلطة وظاهرة ونظرية في ادارة الدولة وتحالفات في الداخل والخارج وبنوك وعقارات وفيللات وأسلحة، وحتى سعيد مهران لم يعد فرداً ضحية بل صار شعباً.