حمزه الحسن يكتب : البربرية الجديدة

ـــــــــ التطور الخطير في البربرية الجديدة انها عكس القديمة لا تكتفي بالقتل بل بالتلذذ والتمتع به * أندريه مالرو، روائي ومفكر فرنسي.
عندما ينزل أشخاص الى الشوارع والميادين المكتظة بالناس ويطلقون النار على أشخاص لا يعرفون من هم أو خطف على الهوية أو اشعال حرائق،
فلا يعني ذلك أن السبب عائد إلى عقائد ومبادئ يدافعون عنها لأن واحدة من تقاليدنا السياسية السطحية منح كل خبل ومعتوه ومنحرف هوية سياسية أو عقائدية كهدية ومكافأة مع ان هؤلاء القتلة يبحثون عن هوية فردية وعامة من خلال جماعة من أي نوع وتحت أي غطاء لممارسة التوحش. كل توحش وانحراف بحاجة إلى أقنعة.
الدفاع عن الوظيفة والمكسب والضحالة الاخلاقية والمصلحة الشخصية والبحث عن مكانة وهوية وقيمة ،
هي دوافع للقتل وخيانة الضمير والآخر والاستغلال ولا علاقة للمبادئ والعواطف والسياسة بها إلا كغطاء وقناع.
خلال متابعتها جلسات محاكمة النازي أودولف أيخمان في القدس بعد اختطافه من الارجنتين في بداية الستينات التي عاش فيها
متنكراً لاحظت الفيلسوفة الالمانية حنة أرنت أن أيخمان لا يتصرف في المحكمة كقاتل عقائدي مؤمن بالنازية مع انه قام بأفظع الاعمال
في المحرقة ولا يصدر شره عن دوافع عميقة،
بل عن ضحالة اخلاقية وقذارة نفسية وليس عنصريا كما صورته الدعاية الاسرائيلية لخلق صورة قاتل عقائدي ـــــ كما نفعل نحن مع كل مجرم ونصاب ومنحرف ــــــــــ وكتبت كتابا ” أيخمان في القدس: تفاهة الشر”.
رغم كونها يهودية وضحية معتقلات النازية لكنها متحررة من الاوهام التوراتية،
لكن الكتاب أشعل نار الكراهية ضد حنة أرنت لأنها خرجت عن التفكير السائد والبناء النفسي الصوري في تصوير أيخمان كمجرم بتوجهات مسبقة وكاره لليهودية،
إنما رأته في الواقع كشخص تافه وسطحي وعديم الضمير وهذه عناصر جوهرية للشر كما تقول:
” الشر لا يحتاج الى وحوش شيطانية، بل يحتاج الحمقى والاغبياء “.
التوحشي عقم داخلي سواء صدر من جماعة او سلطة او من فرد لذلك لم يخلق التوحش حضارة أو ثقافة أو أدباً أو فناً أو لغة ّ بل خلق الحيل والجرائم لكنه في النهاية يتهاوى ويختفي بلا أثر في حين الحضارات التي تأسست على الضمير باقية وخالدة حتى اليوم كالفرعونية والبابلية والسومرية والاغريقية وتلاشت الدول والامم الفاشية والشمولية والنازية والدكتاتورية لانها تأسست على القسوة والظلم وخيانة الضمير البشري وخيانة الحياة.
هذا الصنف أخطر مسخ بشري لأنه لا يقتل ويدمر ويخرب فحسب بل يتمتع
في سلوك لابشري متوحش من دون أي ندم ولا مشاعر ولا عواطف،
لكنه يحاكي ويقلد الاخرين حسب توقعاتهم منه،
وهو النموذج الأوضح للسيكوباثي والنرجسي الخفي المرتدي أقنعة ولم يترك للشيطان ما يفعله
بل هو الصورة الحقيقية للشيطان في الخيال البشري عبر التاريخ. لم تمنح إيخمان هوية سياسية أو عقائدية لأن قاتل المكتب هذا تافه وعديم الضمير وسطحي وغبي وهذه كافية كدوافع للشر.
تنطلق حنا أرندت في تحليل شخصية أيخمان من قراءة عميقة
للشر في أنه دافع سطحي وتافه وعلى العكس من ذلك أن الخير هو الدافع الأعمق في البشر.
رغم مرور حوالي 60 عاماً على محاكمة أيخمان في القدس وإعدامه
شنقاً وحرق جثته ورمي رمادها في البحر،
لكن ظل إسم حنة أرنت مكروهاً في إسرائيل ولم يترجم الكتاب الى
العبرية مع أنها واحدة من أعظم مفكري القرن العشرين إلا في السنوات الأخيرة عندما بدأت مراجعة وقراءة مختلفة لها بين
جيل جديد من ” المؤرخين الجدد” الحركة التي انتشرت في دول عدة واعادة النظر في سرديات التاريخ الرسمية،
وهو ما توقعه لها الفيلسوف الالماني كارل ياسبر صديقها المقرب في رسالة عام 1963:
” سيأتي زمان لن تكوني حية لتشهديه،سينصب لك اليهود نصباً تذكارياً في اسرائيل، وينسبونك بفخر إليهم”.
رداً على منطق يقول إن أيخمان كان شخصاً بضمير نازي،كانت حنة ترد بعمق باهر:
هو بلا ضمير لكنه ليس نازياً، وتجنب التفكير في عواقب أفعاله وقاتل المكتب هذا يرى نفسه مواطناً صالحاً يتبع أوامر أعلى منه”.
في هذا السياق فهمت حنة شخصية أيخمان، على أنه ولد من نسق ثقافي وسياسي عام وضميره لم يوخزه لأنه لم يسمع من الخارج ما يندد بهذه الأفعال بل العكس وجد الاطراء والمدح مما عزز الشر فيه.
عندما يقوم قتلة بقتل وخطف وتعذيب أشخاص لا يعرفون من هم إلا على الهوية ، من الغباء منح هؤلاء الوحوش الأنذال هوية ما، سياسية أو دينية،
هؤلاء القتلة يعانون من ضحالة أخلاقية وفكرية تم تحويلهم الى حيوانات متوحشة قبل الجريمة،
عندما تم تحويل الضحايا الى أشياء،
والتشيؤ Reification هو تحويل العلاقات البشرية الى
علاقات آلية غير شخصية،
وعندما ” تشيؤ” الإنسان ، أي يتحول إلى شيء، لا يمكن التعاطف معه،
بل يمكن قتله وخيانته علناً وإحتقاره بل وتفكيك جسده، اي تقطيعه بلذة لأن الفرد لا يتعاطف مع آلة مفككة كراديو أو هاتف أو دراجة وقد شاهدنا طقوس القتل والذبح حيث تقف او تجلس الضحية عزلاء وأمامها قاتل في لحظة نشوة ومرح.
في الحياة اليومية وفي العلاقات العامة مظاهر كثيرة لهذه الظاهرة البشرية القذرة التي تضيع في بيئة مشوهة رغم انها تتم بطقوس مختلفة كالخيانة والنصب والاحتيال والسرقة والتلاعب والخ.
لمواجهة تفاهة ولا اخلاقية وسطحية الشر، لا خيار للمجتمع غير التمسك بقيم الجمال والخير والحب والنبل والوفاء لكي تكوّن جداراً واقياً من هذا
الانحطاط في السلوك،
ولكي يسمع القتلة كل لحظة صرخات مضادة لضمير السوء لأن الضمير أقدم من الحضارة ومن الثقافة وإذا مات ، يصبح الانسان وحشاً أطلق على العالم بتعبير ألبير كامو.
وحوش أنيقة وليس كما صورتها السينما الكلاسيكية بوجوه شريرة منفرة. لقد تغير الشر ولم يعد نقيض الخير بل الشر الجديد نقيض الشر القديم الذي يكتفي بالقتل لا بالمتعة والتلذذ معه وهو أخطر تطور في تاريخ البربرية.