كتاب وشعراء

حمزه الحسن يكتب : ما بعد الحماقة

ـــــــــــ “لكل داء دواء يُستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها.
* أبو الطيب المتنبي.
نظرية الرئيس الاحمق أو الرجل المجنون Madman theory ليست من اختراع الرئيس الامريكي ترامب بل من اختراع الرئيس الامريكي نيكسون خلال الحرب الفيتنامية عندما طلب من وزير خارجيته كيسنجر خلال مفاوضات باريس عام 1973 لانهاء الحرب ان يختلي برئيس الوفد الفيتنامي لي توك دو متقمصا دور الطيب والقول له بطريقة درامية عاطفية:
” أحب أن تعرف أن ذلك الرجل الجالس في البيت الأبيض في واشنطن (يعني الرئيس نيكسون) مجنون، ولولا أنني أقوم بتهدئته من حين لآخر لأمر بتسوية فيتنام كلها بالأرض”.
” الآن وقد أوصلتم التفاوض إلى طريق مسدود فإن هذا الرجل عندما يبلغه الخبر سوف يجن جنونه، إنه قطعاً سوف يأمر باستئناف القصف الجوي على مدنكم، إنني أنصحكم بالمرونة وإبداء قدر من التنازل حتى أتمكن من تهدئة ثائرة ذلك الرجل”.
لم يكن كيسنجر يعرف ان المفاوض الفيتنامي لي دوك دو هو عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الفيتنامي مطلع على نظرية الرجل المجنون Madman theory كاسلوب ابتزاز في التفاوض وعلى عكس توقع كيسنجر ورئيسه قامت جبهة التحرير الوطني الفيتنامية الفيتكونغ بأعنف الهجمات المسلحة على الجيش الامريكي وأتباعه خلال التفاوض لمنح المفاوض أوراق قوة على الطاولة.
الرئيس نيكسون نفسه أحيا ولم يكن من اخترع نظرية الرئيس او القائد المجنون الأحمق الذي يصعب توقع افعاله المحاطة بالغموض المربك ولا يمكن التنبؤ بخطوته القادمة كتصريحات ترامب الملتوية قبل الهجوم على ايران.
في كل التاريخ يظهر قائد أو زعيم أحمق، أو يتظاهر بالحمق،
في لحظات من التاريخ والمواقف الحاسمة، لكن هذه الحماقة مع جيش مسلح بأنياب نووية تكون أخطر قوة مرهوبة،
لأن صيت وسمعت القائد الذي لا تعرف خطوته القادمة،
يعلن شيئاً ويخطط لآخر، تجعل الاعداء في حالة ارباك وتشوش وقلق،
لأنهم لا يعرفون من أين وكيف ستأتي الضربة القادمة.
في كتابه وهو خلاصة الاف الامثال والحروب والتجارب من فجر التاريخ وحتى اليوم: ” 48 قانونا للسلطة أو القوة”
يؤكد روبرت غرين في القانون 21 إن على القائد أن يتظاهر بالحماقة،
إن لم يكن” أحمق” بالفعل، وأنه أغبي من خصومه لكي يصطادهم حسب قاعدة تظاهر انك مغفل لتصطاد مغفلاً،
وكيف أن السمعة وصيت الحماقة تلعبان دوراً في إرباك الأعداء
في بناء سياج الخوف والرهبة منه.
ستكون النتائج مثمرة لو كان عنده تاريخ حماقات وقرارات متناقضة نزقة ، وليس تاريخ رجل عاقل وحكيم،
لأن هذا الغموض الأحمق يضلل الأعداء كما لو يركضون خلف السراب.
لكن خطأ الأحمق القائد بناء جدران عزلة طويلة حوله،
لأنه يتحول الى منسي في حين تحتاج الهيبة والقوة الى ظهور في أوقات مختارة وعليه اللعب دائماً على إحتياجات الآخرين لبناء طائفة من الاتباع واهانتهم علناً بدافع السيطرة العلنية وليس الاذلال فحسب ــــــــــــ مثال لقاء ترامب بالرؤساء الأفارقة الخمسة والتعامل العنصري الاستعلائي معهم والأسئلة المهينة والغبية كسؤاله للرئيس الليبيري” أين تعلمت اللغة الانكليزية؟” ولا يعرف هذا الأحمق والجاهل ان اللغة الانكليزية هي اللغة الرسمية في ليبيريا.
عليه تجنب المشاريع المعقدة لكن السهلة التي ينفذها الاتباع وهي أهداف القائد الأحمق و مدعي الحماقة لكنهم لا يشعرون بذلك لانهم حمقى مثله،
كما عليه التلاعب بالعناوين واختراع العنوان السهل والبسيط لاكثر المشاريع اجراماَ وجنوناً كريفيرا سياحي أنيق لغزة وهو مشروع اقتلاع وتطهير عرقي، العدوان المسلح على دول وشعوب تحت شعار السلام.
عودة الى سيكولوجية النصابين نعثر على روابط عميقة ومتينة بينه وبين النصاب المحترف لان الادوات والطرق والاساليب تتطابق حرفياً والفارق ان النصب والاحتيال السياسي يغطى بالقوة والحلفاء والقوانين المكيفة عكس الاحتيال الفردي غير المغطي وقوته في التخفي والتلاعب وفي متانة الأقنعة وتعدد اللغة حسب الظروف والمناسبات والأشخاص.
عليه كقاعدة تعكير الماء كي يستطيع الاصطياد.
الصحو واليقظة لا تنفع، أفضل أوقات الصيد في الماء العكر والغموض والفوضى لأن الوضوح يجعل العدو يرى جيداً وعليه تشويشه دائماً كتصريحه قبل ضرب ايران:
” قد أفعل، وقد لا أفعل لا أحد يعلم ما سأفعله”.
لكن عليه ان يحسب بدقة قوته وقوة العدو. في أجواء الغموض وترقب قرارات القائد الأحمق،
لايعرف العدو في أي مكان يحشد قوته أو يبني خططه التي يعصف بخطوطه القائد الأحمق، عليه أن يقول شيئاً ويفعل عكسه،
لأن النصر هو الأهم ولا أحد يتذكر الاكاذيب في الحرب،
النصر يكتسح كل العناوين والناس تحب النسيان.
عليه أن يهاجم في الأطراف في اوقات خديعة العدو ، السرية والصدمة والمباغتة تحسم معارك،
عادة اللامتوقع والحماقة والنزق والظهور بالتهور تخيف أكثر من العمل الفعلي،
الهجوم حيث لا يحتسب ولا يتوقع العدو،
لأنه هو من يختار الزمان والمكان خارج أي توقع لكي تكون الصدمة أعنف،
ولا يترك خصمه مرتاحاً بل وضعه دائما في موقف مستفز للانهاك الجسدي والنفسي.
لا يكشف خططه إلا لأقرب الناس حوله لكن عليه توقع الخيانة دائما ويستعد لها، دعهم يعتقدون ان هذه خططهم لكنها خططه هو الخفية،
لان اقرب الحلفاء والاصدقاء قد ينقلب الى عدو،
وفي الفشل يتملص من المسؤولية ويرميها على الحمقى،
ويكون حجز سلفاً باب طواريء.
ولا يتظاهر بالحكمة والتعقل والاتزان لأن العدو لا يهاب العدو الحكيم والعاقل المتوازن لانهم سيلتقون في ساحة حرب وليس في قاعة محاضرات.
العدو العاقل الحكيم المتزن سيعثر العدو على جسور عدة للتفاهم معه
وخططه واضحه واهدافه، لكن الأحمق يخبط الماء والأجواء دائماً.
عادة يختار القائد الاحمق قادته من الحمقى كوزير دفاع وخارجية ترامب اللذان يتصرفان كمراهقين تافهين لان هذا الصنف بلا تاريخ ومن خلال الرئيس يبني سيرته ولا يعرف انه لا يصنعها بل يطبق خططا جاهزة.
لكن عليه التعامل معهم كعباقرة ويتحاشى الأذكياء لأن هؤلاء يحسبون لكل شيء حسابه ويطرحون كثيراً من الأسئلة وهو يحتاج الى أدوات تنفيذية،
والى ببغاوات وغوغاء وحراس ـــــ صدام حسين بارع في هذا الانتقاء للحمقى ويلتقطهم بدبوس ويتعامل معهم كقادة كبار في طقوس تكريم.
في الميدان يقاتل هؤلاء الحمقى بشراسة بل ببسالة لأنهم حمقى وأسوأ مقاتل هو الفيلسوف الذي يحتار في طرح الاسئلة
في الميدان عن الجدوى والمعنى والوجود والهدف والحياة والموت ولماذا وكيف، ويتحول جسده الى ميدان رمي.
الحماقة ملهمة ليست في الحرب فحسب بل في الادب وكثير من شخصيات الروايات والمسرحيات هم من الحمقى ــــ رواية ” دون كيشوت” للكاتب الإسباني ميغيل دي سرفانتس عن الاحمق الذي صدق انه في مهمة مقدسة ـــــ وحسب عالم النفس السويدي توماس إريسكون في كتابه” محاط بالحمقى” انهم حولنا في محيطنا القريب لكن بأقنعة.
من حسن حظنا ان قادتنا العرب انهم حكماء وعقلاء لدرجة ان الحكمة والرصانة والثقافة والنضج والمواهب تخر من آذانهم،
وتجاوزوا الحماقة الى ما بعد الحماقة.
ــــــــــــ يرى مراقبون أن بوتين هو الرئيس الوحيد الذي لم يتأثر بـ”مغازلة” ترامب له أو ” جنونه” كما لم يتأثر بتهديداته أيضاً وهو من يتحدث معه بنظرات مباشرة واثقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى