رؤي ومقالات

عبده فايد يكتب :جريمة أميركية مروّعة..ومسكوت عنها

ترامب ارتكب واحدة من أغبى الفضائح على الإطلاق..لكنها فضيحة تكشف عن جريمة أميركية مروّعة..ومسكوت عنها..
الرئيس الأميركي قرّر باعتباره زعيم زعماء الكون أن يلتقي مجموعة من الرؤساء الأفارقة دفعة واحدة في مكتبه بالبيت الأبيض..موريتانيا والسنغال وغينيا بيساو والأهم ليبيريا..ترامب قاطع رئيس ليبيريا وسأله..لغتك الإنجليزية جميلة جدًا..لدي أناس على الطاولة لا يستطيعون التحدث بتلك الطلاقة..أين تعلّمتها؟..أين الفضيحة في سؤال مماثل؟..ببساطة..أميركا في القرن التاسع عشر حرّمت تجارة الرقيق، يعني الإنجليز ولمدة قرنين من الزمان كانوا يسرقون الأفارقة من قلب القارة وينقلوهم إلى المستعمرات في العالم الجديد..أميركا والبرازيل وهندوراس وجواتيمالا وغيرها، من أجل العمل بالسخرة خصوصًا في زراعة قصب السكر والخدمة المنزلية..وبعد ما أميركا استقلت عن بريطانيا، وهي الأخرى استخدمت الرقيق الإفريقي ( قرابة 18 مليونًا ) قرّرت أخيرًا أن تعفو عنهم..وتسمح لبعضهم بالبقاء في أميركا..ومن أجل استعراض إنسانيتها..قرّرت ترجّع جزء منهم قارة إفريقيا..بس ترجّعهم فين؟..
وقتها كانت هناك مؤسسة تُدعى ‘‘جمعية الاستعمار الأميركية‘‘..تلقّت تعليمات من الرئيس الأميركي ‘‘جيمس مونرو ‘‘ بالبحث عن قطعة أرض فاضية في إفريقيا لإعادة توطين العبيد المُحرّرين..وفعلًا وجدوا قطعة أرض، أقاموا حولها سورًا، ثم أعادوا إليها مئات ألوف الأفارقة..طيب نسمّي قطعة الأرض دي إيه؟..تمام..نسميها ‘‘ليبيريا‘‘ اشتقاقًا من لفظ Liberty أو الحرية..وأنشأوا لها عاصمة سمّوها ‘‘مونروفيا ‘‘ اشتقاقًا من لقب الرئيس الأميركي ‘‘جيمس مونرو‘‘..وليس هذا فقط بل جعلوها مثالًا للحلم الأميركي-العبري..في نشأة أميركا وفد إليها مجموعة من أشد المسيحيين الإنجيليين تعصبًا في الكوكب ويُطلق عليهم ‘‘البيوريتان/ التطهريين‘‘ وهدفهم إقامة مملكة المسيح في عشر ولايات أميركية من أجل تطبيق وصاياه العشر، وفي نفس الوقت دعم تأسيس مملكة العدو في قلب أراضينا المحتلّة حاليًا، من أجل التعجيل بقدوم المسيح والخلاص الأبدي، وبالمناسبة أيضًا تلك الظاهرة تطوّرت حاليًا إلى اللوبيات المؤيدة للعدو من المسيحيين الإنجيليين والذين أصلًا يشكلون قوة ترامب الانتخابية الرئيسية..أهم البيوريتان دول هم من شكّلوا ليبيريا على نفس نمط الحلم المسيحي الأميركي..كيف ذلك؟..
صاغوا دستور ليبيريا الأول في عشرينات القرن التاسع عشر وينص على أن رئاسة الدولة محصورة في رجال الدين..آه والله فعلًا..يعني عشان تكون رئيس دولة لازم تكون الرأس الأولى في الكنيسة الإنجيلية أو سبق لك الخدمة في الكنيسة في أي منصب..وقد كان..من سنة 1847 وحتى عام 1983 كان رؤساء جمهورية ليبيريا من رجال الدين..أول رئيس كان عبدًا إفريقيًا مُحررًا من ولاية فيرجينيا الأميركية واسمه ‘‘جوزيف روبرتس‘‘ وكان أسقفًا في كنيسة Methodist Episcopal Church ومن بعده الرئيس الذي خدم لولايتين جيمس سبريجز باين وكان ينتمي لنفس الكنيسة، وبعدهم مثلًا..الرئيس وليم تولبرت، وكذلك الرئيس بيني دي وارنر..وغيرهم..طيب مش دي دولة دينية كده؟..لأ عادي..طالما مسيحية إنجيلية على النمط الأميركي..مفيش مشكلة يعني..بس أكيد الأساقفة اللي هما أصلًا عبيد مُحرّرين عملوا دولة إفريقية متقدّمة؟..لا والله..كانت من مهازل التاريخ الإنساني..العبد الإفريقي القادم من أميركا، قرّر بنفسه استعباد الأفارقة الوثنيين الذين لم يغادروا ليبيريا..لماذا؟..لأنهم وثنيون إنما القادم من أميركا إنجيلي..وتلك كانت أول مرة نرى فيها إفريقي يستعبد آخر..في ليبيريا..بس كده؟..لأ..رؤساء ليبيريا المدعومين من أميركا كانوا مختلّين فعلًا..أحدهم وهو تشارلز كينج فاز بالرئاسة عام 1927 بحصيلة 450 ألف صوت..إيه المشكلة؟..بسيطة..عدد المصوتين كان أصلًا 15 ألف فقط..
يعني أميركا أنشأت ليبيريا؟..صح..عاصمة ليبيريا سُمّيت على اسم رئيس أميركي؟..صح..رجال الدين الإنجيليين هم من تولوا منصب رئيس الجمهورية في ليبيريا تنفيذًا لرؤية سياسية-دينية أميركية لمدة قرن ونصف؟..صح..يعني أميركا شجّعت عبودية عكسية من العبيد الُمحرّرين ضد أصحاب الأرض الأفارقة في ليبيريا فقط لأن الُمحرّرين مسيحيون إنجيليون؟..بالظبط..ومش بس كده..لماذا حرصت أميركا على تولي رجال دين مسيحيون مقاليد السلطة في ليبيريا؟..لأنهم كانوا فاسدين حتى النخاع وسمحوا لشركة أميركية واحدة هي ‘‘فايرستون‘‘ بالحصول على احتكار زراعة المطاط وتصديره لأميركا..والغريب يا عزيزي أن التاريخ لا يتحدث طويلًا عن فساد الأساقفة أو عن تأسيس دولة إنجيلية في قلب إفريقيا لتسهيل النهب الاستعماري الأميركي..لأنهم فقط غير مسلمين..إنما لو مسلم..يا إلهي..لقامت الدنيا ولم تقعد..ده لمّا الحركة الخضراء فازت بانتخابات عام 2006 في القطاع..بدأت العقوبات والحصار وأربع حروب من العدو بدعم أميركي..أصل ناس منتمين لحركة إسلامية سيحكموا القطاع..إنما أميركا عادي تنشيء دولة يحكمها الأساقفة السُرّاق لمدة 150 سنة..تبعنا يعني..
خلصت القصة الأميركية في ليبيريا..لا..عام 1983 قرّر عسكري ليبيبري واسمه ‘‘صمويل دو ‘‘ أن ينتفض ضد أميركا مرّة واحدة وللأبد وأن ينهي امتيازات القساوسة من أحفاد العبيد المُحرّرين من المزارع الأميركية..وكان أول من نال منهم هم المسيحيون العاديون الذين لا ذنب لهم ثأرًا مما ارتكب باسم الصليب في حق أبناء عرقيته ‘‘الكران‘‘..وفعلًا لأول مرة يحكم الأفارقة الأصليون ليبيريا ومن عرقية واحدة وهي الكران ويتم إقصاء قبيلتين وهما الجيو والمانو من الموالين لأميركا..تخلص القصّة وتترك أميركا ثروات ليبيريا العملاقة؟..لا..لا..ما سيحدث تاليًا لو شاهدته في فيلم سينمائي لما صدّقته قط..كان هناك شاب من ليبيريا، من أب وأم من العبيد الُمحرّرين، درس في واحدة من أرقى الجامعات الأميركية على الإطلاق..ماساشوستس..وليس هذا فقط..كان يعمل أيضًا كواعظ في إحدى الكنائس الإنجيلية في أميركا..ما شاء الله..سيرة تشرّف..ماله بقى؟..ببساطة كان هناك جانب آخر من القصّة..أن هذا الشاب سُجن بتهمة السرقة في سجن أميركي يُدعى بلايموث سنة 1983..خسارة..فين القصة بقى؟..لسه هتبدأ..فجأة استطاع هذا الشاب الليبيري الهروب من السجن الأميركي، وتزوير جواز سفر، والعودة إلى إفريقيا، وليس هذا فقط..الحصول على أطنان من السلاح وتشكيل جيش عرمرم وقيادة إنقلاب على الرئيس صمويل دو، وتولي رئاسة الجمهورية في ليبيريا..
هل تقول بأن أميركا هرّبت واعظ مسيحي ليبيري من سجن في قلب أميركا وأعادته لإفريقيا وسلّحته من أجل إسقاط نظام الحكم؟..بالظبط..وكانت واحدة من فضائح القرن العشرين المكتومة..وسوف تخرج رائحتها النتنة للعلن عام 1990 عندما ينتشر على كل وكالات الأخبار الدولية شريط مصوّر ( ما يزال موجود على يوتيوب ) يقوم فيه هذا الواعظ الهارب من سجن أميركي بتصفية الرئيس الليبيري صمويل دو على الهواء مباشرة بأشنع الطرق المتخيّلة..ما اسم هذا الشاب الواعظ؟..احفظه جيدًا..لأنه سوف يصبح أهم اسم في العالم بعد سنوات..اسمه ‘‘تشارلز تايلور‘‘..إذن نجحت أميركا في إسقاط الرئيس المعادي لها صمويل دو وتنصيب أحد مسجونيها وهو تشارلز تايلور رئيسًا لليبيريا..ومن تلك النقطة سوف تبدأ مأساة مروّعة..هذا الواعظ الهارب أطلق حربًا أهلية في ليبيريا..كان يرغب في إعادة تثبيت الحكم الأميركي عبر القساوسة لكن أبناء عرقية الكران رفضوا..فكانت الحرب..ليست حربًا بمعنى الكلمة..بل سحق من جانب لآخر..200 ألف إنسان لقوا حتفهم في تسعينات القرن الماضي..وكانت أميركا وحدها من يمول تشارلز تايلور بالسلاح..وقبضت الثمن أضعافًا..دولارات؟..لأ..ألماس..مئات ملايين الدولارات من الألماس حصلت عليها شركات أميركية مجانًا لقاء قطع سلاح خفيفة كانت كافية لوقوع المأساة..ويوم ما حبّت أميركا تعوض عن ذنبها أنتجت فيلم شهير لنيوكلاس كيدج وهو Lord of War..
بل أن تشارلز تايلور في عز جرائمه كان يتمتّع بحماية شخصية أميركية وكانت الفضيحة عام 2002 لما ذهب تايلور إلى بريطانيا مصحوبًا ب بودي جاردات أميركيين عسكريين سابقين لكي يلتقي عشيقته عارضة الأزياء الشهيرة ناعومي كاميل، ويُهدي لها أكبر ماسة في العالم..ثم بعد أن اطمئنت الولايات المتحدة على منهوباتها وأعادت تأسيس الأوضاع في ليبيريا لخدمة مصالحها الاقتصادية، وشعرت أن تايلور أصبح عبئًا..أطاحت به وقبضت عليه عام 2006..وطبعًا لزوم الشو..دعمت أميركا صعود سيدة للحكم وهي ‘‘إلين جونسون سيرليف‘‘ ومُنحت جائزة نوبل للسلام، لأن العصر تغيّر وأميركا دومًا تواكب العصر بعد تأمين مصالحها..واليوم في استعراض للجهل والوقاحة الأميركية مجتمعين يسأل ترامب رئيس ليبيريا عن سرّ لغته الإنجليزية القوية..الرئيس الأميركي البرتقالي الجهول حتى لم يُكلّف خاطره بمعرفة من سوف يقابل..ولو كان قرأ أو سأل مستشاريه..لعلم أنه سوف يقابل الجريمة الأميركية الحيّة على مر العصور..
يقابل ليبيريا..البلد الذي استمد اسمه وعاصمه بل وحتى لون علمه من الولايات المتحدة..البلد الذي حكمه رجال دين مسيحيون مُحرّرون من قلب العبودية الأميركية وكانوا من الأقسى والأحط في العالم..البلد الذي سرقت الولايات المتحدة عشرات المليارات من ثرواته من المطاط والألماس ولو كان الثمن 200 ألف روح..البلد الذي من أجله سمحت واشنطن بهروب أحد مسجونيها من سجن شديد الحراسة حتى يذيق الويلات لأفارقة كل ذنبهم أنه رفضوا مرة واحدة وأخيرة..الهيمنة الأميركية..لكن حتى الجهل والغرور الأميركي ممثلًا في ترامب أبى التعرّف على ماضي خدّامهم، وخدام الكيان بالمناسبة لأن ليبيريا أكبر محطة تجسس للعدو في قلب إفريقيا..ثم يسألك أحدهم..لماذا تُناصب الرجل الأبيض العداء؟..لأنه وحضارته وقيمه ومبادئه..التجسيد الأمثل لانحطاط الروح البشرية..التجسيد الأنسوي للشيطان !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى