رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الرجع القريب

عندما دخل الجيش الأمريكي النجف عام 2003، وقف حاجز بشري في الشارع المؤدي الى ضريح الإمام علي،
وخرج من بين هؤلاء رجل معمم يقول لهم بإنكليزية مكسرة:
” مدينة yes لكن ضريح No”
أي إدخلوا المدينة وافعلوا ما تريدون، لكن ممنوع دخول الضريح.
ذلك المشهد العابر الموثق في سجلات وأفلام، يعكس العلاقة السطحية بين الرمز وبين الوطن،
بين الإساءة للرمز عندما يستباح وطن الرمز ، وماذا يبقى من الرمز عندما تستباح الأرض والناس؟
هذه ليست عقلية فرد بل هي السائدة اليوم في التعاطي
مع موضوع الرموز والوطن والقداسة:
في العراق تتواجد فيه 12 قاعدة عسكرية امريكية من غير قوات فرنسية والمانية ونصف مخابرات العالم وجيوش مجلس التعاون والسي اي ايه والموساد، لكن كل هذا ليس مسيئاً للرموز.
تدنيس الارض وغياب العدالة والحرية وسرقة الثروة،
ليست اساءة للرموز الذين استشهدوا لاجل قيم العدالة والحق.
هذا الموقف الذي يخفض الرمز الى هذا التبسيط ويختزله بمكان،
ليس جديداً:
خلال الاحتلال البريطاني للنجف عام 1918، يقول القائد البريطاني في مذكراته إنه سمع بقدوم وفد يريد مقابلته
من رجال الدين ووجهاء المدينة ويقول جهزت نفسي لشروط ومطالب صعبة جداً، لكن الوفد لم يطلب شيئاً سوى:
” لا تدخلوا الضريح”
ودهشتُ، يقول، ولم يخطر ذلك ببالي دخول الضريح. وبلا شك عجب القائد البريطاني كيف لا يضع هؤلاء احتلال الأرض كهتك للسيادة والكرامة والرمز أيضاً الذي كسب شرعية تاريخية من فكرة التضحية لأجل العدالة.
ليس هذا الصنف وحدهم من يقيمون في رموز ونصوص لا في أوطان،
مع أن الرمز كان سيحارب لأجل قداسة الوطن والناس، وهنا قيمة هذه الرموز التي أفرغناها من محتواها، وحولناها الى طقوس، لأن قداسة الرمز ليست في الحجر بل في المبادئ والتضحية، حتى أصحاب العقائد السياسية” الثورية” اليسارية كانوا كذلك يقيمون في نصوص وليسوا في أوطان،
وغالبية الأدباء في كل المراحل والعواصف والانقلابات كانوا غارقين في نصوص فرويد والبنيوية واليسار الجديد والنسوية وغيفارا وتروتسكي والوجودية والريادة الشعرية وقصيدة النثر، ولا يعيشون في وطن بل في نصوص، ومن عاش تلك المرحلة يعرف عن أي شيء نتكلم،
في حين كان العقداء الغجر يقومون بانقلابات في الستينات كل ربع ساعة،
ويجمعون هؤلاء من الحانات والمقاهي الى السجون مصدومين مما يجري داخل الوطن ــ خارج النصوص، وهم يتبولون في السراويل.
من يريد معرفة المزيد ليقرأ رواية فؤاد التكرلي” الرجع البعيد” كيف ان الثوري اليساري كان غارقا في الخمر وكتابة رسائل الغرام الى ” البجغ” الذي تعلق به ـــــــــــــــ حسب وصف التكرلي ـــــ في حين كان انقلابيو الثامن من شباط 1963 يهاجمون الزعيم قاسم في وزارة الدفاع في لحظة مفصلية ومنعطف غير تاريخ العراق الى اليوم ولسنوات قادمة ومن وقف خلف الانقلاب في الظلام هم من قاموا بالغزو والاحتلال عام 2003 ونحن ننسى تسلسل الاحداث.
ان عدنان في الرواية عضو “الحرس القومي” ميليشيا الحزب في ذلك العام الذي اغتصب ابنة اخته منيرة ــــــــــــ رمز العراق ـــــــــــ في حقول ديالى هو صدام حسين نفسه لكن التكرلي استعمل اللغة الرمزية المشفرة ومناورة في الختام في ان الرواية تنتهي عند عام 1967 أي قبل انقلاب 1968 ولم تنشر الرواية في العراق بل بيروت عام 1980 في مرحلة مفصلية من صعود الدكتاتور المشغول لحظتها في بناء السلطة على صورته المشوهة وانتهى توا من مجزرة الرفاق في قاعة الخلد عام 1979 وليست الثقافة والادب من اهتماماته بل ترسيخ سلطته فوق بحيرات الدم، ومن حسن حظ التكرلي ان يكون الناقد والروائي جبرا ابراهيم جبرا والروائي عبد الرحمن منيف ـــــــــــــــــ الثلاثة أصدقاء ــــــــــــ وأمثالهم من الشرفاء في الهرم الثقافي ولم يظهر بعد زمن الوشايات وكانوا يعرفون مناورات التكرلي بدقة ونصحوه بنشرها خارج العراق ـــــ لا تورطنا معك ـــــ اذا كان لا يريد وضع رأسه في فم تمساح والتكرلي القاضي ورئيس محكمة بداءة بغداد عام 1964 الذي يبدو في الظاهر هادئاً وقوراً صامتاً كما تتطلب مهنة القاضي، لكنه في الداخل مرجل نار وطاقة تمرد.
عند اعادة صياغة الاحداث من ستينات القرن الماضي الى اليوم نجد أن ” منيرة” الصورة الرمزية للعراق كانت محتلة ومغتصبة قبل الاحتلال الامريكي،
ومن اغتصبها في الحقول هو نفسه من جهزها للاحتلال وعبارة” وطن نعم، ضريح لا” مستمرة حتى اليوم وما بعده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى