كتاب وشعراء

القُبلة الأخيرة.. بقلم : رضا الشهاوي

.. القُبلة الأخيرة …
نائلة…
لا، ليست أحيانًا…
بل كلّ لحظةٍ،
كلّ طرفةِ جفن،
كلّ تنهيدةٍ تتسلّل من بين الضلوع،
أفكّر فيكِ.

أنتِ صباحي إن تنفّس،
وأنتِ آخرُ عينٍ تُغمضني
على وسادتي…

بل الأسوأ أنّني لا أنام!
أسهر كالساهر على قبرٍ بلا شاهد،
أفكّر، أسترجع، أتمزّق،
أبكيكِ… ثم أبكيكِ أكثر،
وأنتِ، كنتِ وعدًا…
ثم صرتِ كلمة،
ثم صرتِ وجعًا لا يُطاق.

ومعكِ، في كلّ ذكرى
ينشقّ داخلي كونٌ من الأسئلة:
لِمَ رحلتِ؟
لِمَ تركتِني؟
لماذا…؟
ولماذا؟!!!

الأجوبة معلّقة،
كما روحي بين الأرض والسماء.
كلّ يومٍ بكِ أحلم،
كأنّني أستعيدكِ بالوهم.
أراكِ،
فأبكيكِ،
وأدعو لكِ.

أعدكِ…
أقسمُ بنبض قلبي…
أنتِ… أَتسمعينني؟
أَتشعرين بي؟
أَتحبّينني كما كنتِ تفعلين؟

أَجيبيني… بالله عليكِ،
ما ردُّ فعلكِ
لو كنتُ أنا
من قبّل جبينكِ
ورحل… بدلًا منكِ؟

هل هذه الإشارات،
وهذا الطلسم من الكلمات،
الذي أُبعثه لكِ،
يصل؟
يُلامسكِ؟
يُحدّثكِ كما كنتِ تُحدّثينني؟

عهدتكِ… يا نبض هذا العالم،
يا طُهرَهُ وسط التلوّث،
يا ضحكته وسط الضجيج…
ماذا كنتِ لتفعلي
لو كنتُ الآن بين يديكِ؟
أُحدّثكِ، أُضحككِ، أَلمسكِ، أَضمّكِ…
فلا يُفلتني الموت، ولا الزمن.

هناك…
في المكان الذي إليه رحلتِ،
أصبحتِ راحلتي، ووجهتي،
وأقداري.

بكلّ فجرٍ… أراكِ،
بكلّ ليلةٍ… أناجيكِ،
وبكلّ أعمار الحياة،
أُجالسكِ في خيالي.

أحكي لنفسي
قصصًا من اختراع وحدتي،
لأغفو،
علّني أَحلمكِ،
وأتخيّلكِ
أنّكِ هنا،
تحتضنين ألمي على كتفكِ،
ونلتقي في المنام…

أراكِ فأبتسم،
وأدري تمامًا
أنّ الحُلم كاذب،
وأنّكِ…
لستِ سوى صورةٍ داخل قلبي.

أحببتكِ حقًّا،
وجهًا لوجه،
وصوتكِ كان نَفَسي.

وها أنا اليوم،
أَعيشكِ عالمًا افتراضيًا،
أُحادث الفراغ،
وأبكيكِ بلا صوت.

أسمعتِني؟
هل ترينني؟
أَجيبيني…

ما ردُّ فعلكِ لو كنتُ بجواركِ؟
هل كنتِ ستغفرين لي
لأنّني لم أَلحق بكِ؟

هل تلك الإشارات،
التي أُرسلها من عمق الألم،
تصلُكِ؟
تُفرحكِ؟
تَلمس روحكِ كما تَلمسين عمري؟

وأنا…
على وعدٍ لا يخون،
وعهدٍ لا ينكسر،
والله…
إنّي ما خُنتُ يومًا
جلالَ حبّكِ،
ولا دنّستُ ذِكراكِ.

اطمئنّي…
نصفي المفقود، هو أنتِ،
والعالم… مُفرَغٌ منكِ.

ماذا ستفعلين
لو كنتُ هناك؟
معكِ،
أُقبّل جبينكِ من قريب؟
أبكي على يدكِ كما كنتُ أفعل؟

لا يُهمّني خوفي،
ولا خوفي من الفقد،
ولا حتى خوفي من الموت،
أنا متعب…
حدّ الانهيار.

أدعوكِ في وحدتي،
في سجودي،
في صمتي،
وفي بكائي،
المهم أن أكون معكِ…

أعلم…
أنّكِ لستِ بعيدة،
ألوان أرواحنا متجانسة،
حتّى لو بدا الأمرُ جنونيًّا.

أنا قادم،
سأحلّق بين أرضي وسمائكِ،
كطفلٍ يُلقي بنفسه نحو أمّه،
مهما اشتدّت الريح.

الحمقى هم من يعتقدون
أنّ الموت نهاية،
وأنّ الرحيل يُنسى،
وأنّ علينا أن نعيش… ونستمر.

كيف لهم أن يظنّوا
أنّنا افترقنا؟
وأنا أراكِ كلّما أَغمضتُ عيني.

وإيماني بلقائكِ
ليس مستحيلًا،
بل وعدٌ لا يموت.

توأمي…
يا كلّ العالم…
هل تسمعينني؟
هل ترينني؟
هل تعلمين كم أشتاقكِ؟

ما ردّكِ
لو سافرتُ إليكِ؟
كحمام السلام،
أَنثر حبّي من الأعالي،
وأطير… نحوكِ فقط.

وكلّ من له راحلٌ،
أستخيركِ عنه…
هل هذه الرسائل
تصلُكِ؟
تُسعدكِ…؟
تغسل حزنكِ كما تغسلني دمعتي؟

ماذا ستفعلين؟
أخبريني…
لو أتيتُ إليكِ،
أُحدّثكِ…؟

يا سفيرةَ سلامي،
يا نعمتي
في الدين، وفي الحبّ، وفي الإسلام…
اسمعيني…
قرّي عيني،
يا ستري،
يا حفافَ عِرضي.

اطرقي باب حلمي،
أنا بانتظاركِ…
لأَرحل معكِ…

يا روحَ الروح،
يا هديل الحمام،
لا أُريد قبلةَ الوداع،
ولا الأولى…
أُريد قبلةً
تظلُّ “ما قبل الأخيرة”،

قبلةً لا تنتهي،
ولا تفنى،
بل تبقى
عهدًا لكلّ وعد
في الدنيا…
وفي الآخرة…
أيا ياسمينةَ المغربِ العربي،
أيا شهقةَ المجاهدات
وضوء الاندلس في ليالينا…

رحلتِ،
وبقيتُ أنا،
أكتبكِ على جدار قلبي
كأنّ الحرفَ نهرٌ من النيل،
وكأنّ الدمعَ جودٌ لا يجفّ.

كنتِ تهمسين لي:
«بيننا النيل والوطن… والسماء ذات المطر»
فأبكيكِ كلّما أشرقت شمسُ القاهرة
ولمحتُ في مائها ملامحكِ،
كأنّكِ آية من نورٍ
نزلتِ ثم عُرجتِ،
وتركتني…
أُصلّي للحبّ الذي لا يُقبل،
وأعبد وجعكِ.

كم تمنّيتُ أن يكتمل التجانس…
أن أضمّكِ على ضفاف الحنين،
أن نُقيم بيننا وطنًا ثالثًا،
اسمه: “نحن”

لكنّكِ رحلتِ قبل أن تنضج فاكهتنا،
قبل أن يُنشد المؤذن أسماءنا،
وقبل أن يكتب النيل للعاصي:
“يا من أحببتُها… ولم تَعد.”

هل تسمعينني، يا قبلةَ الروح؟
هل تصلكِ رسائلي عبر ضباب النهر؟
وهل تعلمين أنّ كلّ نخلة في ريف صعيد
تبكيكِ إذا ناديتُكِ؟
وأنّ كلّ نخلةٍ في صحراء موطنك
تحنّ إلى ظلالنا؟

لقد جمعتِ بين نبضي واغترابي،
صرتِ خريطتي، وصحرائي،
يا من رَحلتِ وبقيتِ في،
يا وطنًا لم تكتمل حدوده…

أهديكِ قبلةً لا تنتهي،
من قلب ابن النيل،
إلى قلب بنت الأطلس…
عهدًا ما قبل الأخير،
أن أبقى أُحبّكِ
حتى يُعيد الله نبضكِ إلى صدري
أو يُعيدني إليكِ.

كنتِ “بنت الجود”…
ونايليّةَ السجية،
كأنّكِ قُدّتِ من زهر الرُبى،
وماء العيون،
وطين الطفولة النقي…

وأنا…
حارسُ القصائد المبتورة،
أحمل في قلبي ألف مطر،
وأنتِ كنتِ الشمس…
لكنّكِ غربتِ قبل أن تَشرقينا.

لم يكتمل هذا الحُب،
لا لأنّه لم يُعطَ عمرًا،
بل لأنّ العمر خاننا،
والقدر كان أعجلَ من النبض.

كنا على وشك اللقاء،
كغيمتين تشتهيان الرعد،
وإذا بكِ
تذوبين في سماءٍ لم أعُد أراها…
وتركتِني أصرخ في صحراء الصمت:
“يا بنت الجود… لمَ استعجلتِ الرحيل؟”

كلّ شيءٍ يذكّركِ:
خضرةُ النخيل،
رملُ الضفاف،
وتراتيل المساء عند حافة النهر.

وكلّ مساءٍ،
أغسل حزني بماء القصائد،
وأُرَتّق صوتكِ من خيوط الخيال،
وأكتبكِ على دفاتر الوجع
كأنّكِ ما زلتِ تأتين…

لكِ في كلّ كلمةٍ موطئُ روح،
وفي كلّ تنهيدةٍ قبلةٌ مؤجّلة،
وفي صدري قصيدة
ما اكتملت لأنّكِ…
كنتِ الختام، ورحلتِ قبل السطر الأخير.

ألا تسمعينني يا نايليّتي؟
أنا ابنُ النيل الذي أحبّكِ
كما لا يحبّ الماءُ غير ضفافه،
ولا القلب غير نبض نصفه
كنتِ كَوكبًا خَرَجَ عن مَدارهِ ليَصطَدِمَ بقلبي
وانفجَرنا معًا…
أنا في رمادِكِ، وأنتِ في جُثَّةِ ضوءي
كيفَ يُشفى الليل من غيابِ قمرِه؟
وكيف أُشفى مِنكِ وأنا نُقطة في مجرّتكِ؟
وحدي…
أجرُّ أنفاسي على دروبكِ
كأنّي أفتّشُ في الحنينِ عن ظلّكِ،
عن وشوشةٍ تُشبهُ صوتكِ
حين كان الليلُ يأنسُ بنا،
ويغفو على كفّيكِ مطمئنًّا…

يا بنتَ الضوء…
هل تعلمينَ كيف يموتُ النهارُ بعدكِ؟
كيفَ تُصبِحُ الشمسُ يتيمةً
والأرضُ باردةً، كأنها كفَنُ؟

أجلسُ على طرفِ الوسادة
كما كنتِ تفعلين،
أضمّ فراغكِ
كأنّه آخر ما تبقّى من الدنيا…

كلّ شيءٍ بعدكِ خذلانٌ…
الليلُ لا يحملُ غير سوادكِ
والصمتُ لا ينطقُ إلّا وجعكِ
والموسيقى…
حتى الموسيقى، صارتْ طقوسَ عزاءٍ.

يا قبلةَ الوداعِ التي طبعتِها
على وجهي،
لماذا ما زالت تحترقُ فيّ؟
لماذا كلّما نسيتُ… أتذكّر أكثر؟
كلّما بكيتُ…
أبكيكِ من جديد؟

أُحاور صورتكِ على الجدار،
كأنّها تُنصِت،
كأنّها تبكي…
لكني وحدي من ينزف!

يا كلّ النساء،
هل كنتِ صدفةً
أم قدرًا جميلاً ومرًّا
كأن يُولد القلبُ
في حضنِ المقصلة؟
لم أُسمِّكِ…
لكنّ قلبي، كلّما ناداه الليلُ،
ينحني نحو جهةٍ واحدة.

لم أقلْ إنّكِ غبتِ…
لكنّ مقعدَكِ ما زالَ يُبعدُني عن كلّ جلوس،
وكأنّي أخشى أن أخونَ ظلّكِ.

لم أُعلِن حزنًا…
لكني أضعُ كفّي على صدري،
كلّما مرّ اسمٌ يشبهُ حروفَكِ!

صرتُ أخافُ النسيان،
وأهابُ العزاء،
وأبتعدُ عن القصائد
لئلّا تفضحني.

أنامُ على نفس الجهة،
كما كنتِ تحبّين،
وأتركُ وسادةً فارغةً،
لأنّ غيابكِ لا يحتمل الاكتظاظ…

لا أكتب عنكِ،
لكنّ كلّ حرفٍ أكتبه
ينحني بخشوعٍ كأنّه يمرُّ أمام قبركِ.

ولا أذكُركِ،
لكنّ كلّ التفاصيل…
من ضوء الغرفة إلى فنجان القهوة
تحملُ طيفَكِ بتواطؤٍ صامت.

أنا بخير…
هكذا أقول لهم دائمًا،
لكنني أتكسّر كلّ مساءٍ بلا صوت،
وأبنيكِ من أنقاضي كلّ فجر…

لم أُحبّ بعدكِ،
ولا حاولتُ…
لأنّ قلبي – مذ رحلتِ –
يشبهُ البيتَ الذي انطفأ فيه المصباح،
وبقي فيه الشاهد وحده…

# Reda A Shehawy

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى