رؤي ومقالات

جمال محمد غيطاس يكتب :ما هي المؤامرة؟ …. هي الحديث عن مؤامرة في مجتمع “يتحلَّل بيولوجيًّا” بفعل الديكتاتورية

سَئِمْنا من الأسطوانة المشروخة الممجوجة الفَجَّة الكاذبة المنافقة، التي يَنْعِق بها حَفنةٌ من عبيد السلطة، ويُصَدِّعون بها رؤوسنا ليلَ نهارَ، ويعيدون ويُزيدون فيها أنَّ الكونَ بمجرَّاته ونُظُمِه الشمسية المعلومة والمجهولة، وكواكبه ونجومه وشُهُبِه ونيازكه التي لا تُحْصَى، والمخلَّفات الناجمة عن الأقمار الصناعية التالفة، والسبعة مليارات ونصف من البشر الذين يسكنون الأرض، كلُّهم جميعًا تركوا ما وراءهم وما أمامهم، وتفرَّغوا للتآمر على “المحروسة” وإيذائها وخدش ما بها من رونقٍ صنعته السلطة القائمة أو مَن سبَقَها أو مَن سيأتي بعدها.
إذا كانت هناك مؤامرة فعلية وحقيقية، فهي تحديدًا هذه الأسطوانة المشروخة نفسها، وليس شيئًا آخَر.
المؤامرة هي أن يُصِرَّ البعضُ على وجود مؤامرة، يعلم هو يقينًا قبل غيره أنها مؤامرة افتراضية من صُنْعه هو وأسياده، وأن كلَّ ما يسوقه عمَّا يفعله مَن حولنا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وفي الفضاء وفي جوف الأرض وقيعان المحيطات، ما هي إلا أفعالٌ تَبْغي مصالحَهم التي يسعون لصونها وحمايتها علنًا، وينفذون خططَ حمايتها جهرًا، ويعصفون بكل ما يُقابلهم في طريقهم تحت الضوء المبهر.
يحدث ذلك منذ آلاف السنين، وقبل الميلاد وبعده، وقبل الإسلام وبعده، لا فرق في ذلك بين حيثيين ورعامسة، وفُرْسٍ ورومٍ، وسوفييت وأمريكيين، وصينيين ويابانيين وكوريين، وصهاينة وأحباش وخليجيين. الكلُّ يعمل لمصالحه ولشعوبه، بلا لفٍّ ولا دوران، بتحالفات تقوم وتنفض، وحروب ما تكاد تنتهي حتى تبدأ، وممارسات بها الكذب والصدق، والشرف والدناءة، والوفاء والخيانة، والثبات والتقلُّب كالحرباء. في النهاية هي خطط تُوضَع وتُنَفَّذ، ومَن ينخدع أو يتعامى أو يعجز أو يفشل أو يخطئ، عليه ألَّا يصرخ في بَلاهة صائحًا: “مؤامرة!”
المتآمِرُ فعلًا هو مَن عَجَزَ عن إدراك حقيقةٍ ماثلةٍ أمام عينيه طوال الوقت، وعَجَزَ عن التعامل مع الآخرين بأساليبهم نفسها، وفشل في صيانة المصالح الوطنية بشتَّى الأوقات والأماكن والوسائل، ثم تحدَّث عن الخذلان والمؤامرة من قِبَل مَن حوله. فلا أخلاق في المصالح، ولا وقت للتعامي عن وحوش تُكشر عن أنيابها على مدار الساعة، ولا مجال للفشل أمام أمم تتداعى على بعضها البعض كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها.
عبر التاريخ الممتد لآلاف السنين، لم تكن المؤامرة حديثًا لرجال دولة وحُكَّام ساهرين بمنتهى اليقظة، يعملون بصبرٍ وجَلَدٍ وأناةٍ وقوةٍ على حماية مصالح بلادهم، التي هي بطبيعة الحال متعارضة أو متوافقة مع مصالح البلدان الأخرى، وفق منسوب يعلو ويهبط بحسب مقتضيات الموقف وتقلُّبات الدهر.
بعبارة أخرى… حُكَّامٌ يعرفون جيدًا أن هناك مصالحَ دائمةً مطلقةً لأوطانهم، يتعيَّن عليهم البحث عنها وصيانتها، وليس هناك مؤامرة كونية دائمة تُحاك ضدهم، وإنما مصالح متعارضة دائمة مطلقة، يتعيَّن عليهم البحث عنها وصَدِّها بعقلٍ رزين وحُكْمٍ رشيد.
أصحاب الحُكْم الرشيد يعلمون طوال الوقت أن بلادهم وشعوبهم ليست في حاجة إلى عبيد السلطة وفِرَق النفاق الرخيص، بل هي في حاجة دائمة إلى أن تُحْصَّنَ بالعدل، وتُرْوَى بالكرامة، وتُقَوَّى بالحرية والإبداع، وتُسْتَراح بالنزاهة والشفافية، والقدرة على مساءلة حُكَّامها ومحاسبتهم، حتى لو أقدمت زوجة الحاكم على سلوك غير مقبول مع خادمتها المعيَّنة من قبل الدولة. ومَن يستغرب ذلك أدعوه لمراجعة قائمة الاتهامات الموجهة لنتنياهو وزوجته، كحاكم كثيرًا ما يترك مكتبه كرئيس وزراء في الصباح ليجلس على منصة التحقيق ظهرًا؛ لأن زوجته نهرت الخادمة المعيَّنة من قبل الدولة بعدما أسقطت طبق شوربة! ومَن يوافق على أن يحرم شعبه هذه الحقوق ثم يتحدَّث عن مؤامرة، يكون هو المتآمِر، ومشاركًا في صنع المؤامرة أو مُعينًا عليها.
إن حديث النفاق عن المؤامرة هو في جوهره محاولة مكشوفة وفَجَّة وعَبَثية للتعمية على أن الديكتاتورية قادت المجتمع إلى حالة “التحلُّل البيولوجي”. وأقول لك كيف؟
إذا كانت هناك دولة محكومة بسلطة تجعل برلمانها أخفَّ من الريشة، ووزاراتها أهشَّ من قشر البيض، وإعلامها ومجتمعها المدني وأحزابها ومؤسساتها الحية أشدَّ فراغًا من الفضاء الخارجي، ومؤسساتها الأمنية والعسكرية أثقلَ من الفيل، والسلطة العليا أكثرَ ضراوةً وقسوةً من هراوات المعدن المسنَّنة، فاعلم أنها سلطة تعرِّض مجتمعها للإصابة بحالة تشبه “التحلُّل البيولوجي” التي تعود به إلى ما قبل مرحلة “العمران البشري” وبناء الدولة الحديثة.
يحدث ذلك لأن خفَّة البرلمان، وهشاشة الحكومة، وفراغ المؤسسات، وثقل المؤسسة العسكرية الأمنية وتمددها فوق الآخرين، وضراوة السلطة العليا وتغوُّلها على ما حولها، أمورٌ تجعل الأفراد والمجموعات يدخلون في حالة ذهنية سلوكية قوامها الخوف، والميل إلى الانعزال واللامبالاة، وتَبدُّد أي شيء يمكن أن يعتنقه ويحبه ويدافع عنه الناس؛ لأنها حالة تفقدهم الأمل في الإصلاح، وتشعرهم بغموض المستقبل، وتلاشي القيم الباعثة على الحماس الحافظة للانتماء، مع غياب الهدف أو الغاية التي من أجلها يمكن أن تعمل الناس وتُتقِن ما تفعل، ليصل الحال بهم في النهاية — سواءً فرادى أو جماعات — وقد تحلَّلت روابطهم مع “عُروتهم الجامعة”، وهي الوطن.
هنا يكون المجتمع قد أصبح عرضةً للإصابة بحالة أشبه بحالة “التحلُّل البيولوجي”، التي تتفكك فيها خلايا الأشياء والمواد والمركبات تدريجيًّا، ومرحلة بعد أخرى، حتى تفقد كل خلية روابطها مع غيرها، لتصل في النهاية إلى حالة الخلية الأولية البسيطة الوحيدة التي لا تربطها أدنى علاقة مع غيرها، فتتلاشى وتصبح أثرًا بعد عين.
من السهل في هذه الأوضاع أن تتعثَّر كل يوم وكل ساعة في أداء مهتِرئ وهمم خائرة، وانزواء وعزوف من أصحاب الكفاءات والقدرات يصل إلى حد الهوس بالانكفاء الجماعي على النفس، كل ذلك مصحوب بتوتُّرات تقع لأتفه الأسباب، وحالة تعايش مع الخطأ وقبوله لدرجات مدهشة مؤسفة، وإهمال في المتابعة يصل إلى درجة يصبح معها نمط “الإدارة بالطَّنَاش” واقعًا لا ينزعج له أحد في أعلى السلطات أو أدناها، مع خطاب زاعق تحاول السلطة استخدامه لتسويق ما تقوم به من خطط ومشروعات، يقابله عدم اكتراث وعزوف واسع عن المشاركة والتفاعل من قبل الجماهير.
مع الوقت، تبرز تداعيات هذه الحالة المجتمعية المفزعة في أن الجميع يشكو ويئن، وينقاد إلى مشكلات معقَّدة تبدو مستعصية على الحل في شتَّى المجالات؛ لأن المسؤول عن الحل هو نفسه سبب المشكلة، وهو نفسه المستفيد من استمرارها.
كل خبرات التاريخ تقول إن هذه الحالة الذهنية السلوكية القاسية تمثِّل أضعفَ الحالات التي يمكن أن تتعرض لها الدول والشعوب، وأشدَّها وطأةً ومرضًا، وتحدث في الغالب مع سلطة مستبدة، تطبِّق قاعدة “أنا المركز، وما دوني يجب أن يكون فراغًا، لا يتعيَّن أن يكون فيه أحد سوى في القاع”.
حينما تكون الأحوال على هذا النحو، ثم يخرج مَن يُصَدِّع الرؤوس بحديث عن مؤامرة كونية على الوطن، متغافلًا عن الديكتاتورية التي قادت الوطنَ فعليًّا إلى حالة “التحلُّل البيولوجي”، يكون هو نفسه المؤامرة؛ لأنه ينكر أصل الداء، ويبحث عن تشخيص خاطئ وأسباب افتراضية، تقود إلى طرح علاج يتجاوز في عَبَثيته وكارثيته أشدَّ المؤامرات خبثًا وعنفًا… هذا إذا كانت المؤامرة موجودةً أصلاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى