قلبٌ على رصيفِ الدخان ….بقلم عمار الطيب العوني

في السابعِ والعشرين من ذلك الشهر،
هبطَ زيوسُ إلى الأرض.
لم تنشقّ السماء،
لم يصرخ الغيم،
لم تتشقق النجوم.
كان الهبوطُ صامتًا،
كأنّ الهًا خلعَ ألوهيّته
ومشى حافيًا فوق الرماد.
لم يكن سقوطًا،
بل انسحابًا.
تعبَ زيوس.
تعبَ من العبادة،
من الصلواتِ التي لا تصل،
من الأدعيةِ التي تُقال بأفواهٍ مرتجفة،
وقلوبٍ نائمة.
من النذورِ المُعلّقةِ في هواءٍ أصم،
ومن بشرٍ يسجدونَ للعنف،
ثمّ يرفعونَ أعينهم إلى السماء طلبًا للنجاة.
كأنّ الدمَ… لا يكفي ليكونَ صلاة.
تقدّم ببطءٍ في مدينةٍ محطّمة.
البيوتُ كالعظام: مكشوفة، هشّة،
ناصعةٌ كالفقد.
والشوارعُ تمشي بلا أسماء،
كأنها خجلت من الخرائط،
ومن سيرتها الأولى.
ثم، في زاويةٍ من الركام،
رآها…
لم تكن مشهدًا،
بل صفعة.
طفلةٌ تجلسُ وحدها،
تمسكُ بدمية بلا رأس،
وفي يدها الأخرى
حذاء يشبهُ قدمًا لم تكتمل.
اقتربَ منها.
تعثّرت خطواتُه بصمته،
كأنّ الأرضَ نفسها
كانت تتمنّع عن حمله.
قالت، دون أن ترفعَ عينيها:
ــ “لماذا تأخّرت؟”
لم يُجب.
كان يحملُ قلبه بيده،
ينظرُ إليه
كمن يعرضُ جرحه على من مات.
عصره…
علّ صاعقةً تتدلّى من وجعه،
لكن كلّ ما خرج
كان بخارًا دافئًا
يشبهُ العجز.
قالت بهدوءٍ مُرّ:
ــ “أمي نادتك طويلًا…
وأبي… أضاع قدمه في الركام.”
جلسَ قربها.
مدّ قلبه نحوها،
كما تُمدّ وردةٌ في جنازة.
قالت:
ــ “هذا لا يكفي.”
سألها بصوتٍ مكسور:
ــ “ماذا تريدين؟”
أجابت،
وكانت كلماتُها كقصفٍ داخليّ:
ــ “أن تعود قبل أن نموت…
لا بعدنا.”
أقبلت المسيّرة..
رحلت الطفلة..
كما يرحل الضوء
عن جفنٍ مقتول.
وبقي زيوسُ وحده.
لا برقَ في السماء،
ولا غيمَ يشتهي البكاء.
تلمّس قلبه في جيبه،
وجده هناك…
يرتجف،
لكنّه لا ينبض.
تأمّل الفراغ من حوله،
ثم همس
كمن يلفظ اعترافًا أخيرًا:
“ربّما…
لم أكن الهًا،
بل صاعقةً ضلّت موعدها بعد طول عناء.”