حمزه الحسن يكتب :في مديح الخسارات

ــ لقد بحث البشر دوماً عن التضامن والتآلف مع الطرواديين المهزومين ـــ حرب طروادة ــ وليس مع الإسبارطيين المنتصرين. ربما لأن هناك في الهزيمة كرامة يصعب عليها أن تتوافق مع النصر.
* لويس بورخيس.
عندما كان الشاعر والكاتب الارجنتيني لويس بورخيس ــــ في الاسبانية معنى بورخيس البرجوازي وهو كل ما يخشاه أن ينادى به في الآخرة ــــ ينزل سلالم العمارة القديمة في بوينس آيريس وهو بصير،
فحذره كاتب سيرته بارنستون وهو شاعر أمريكي كما جاء في كتابه” مساء عادي في بوينس آيرس” من السقوط، فرد عليه بورخيس: ” لا تقلق فلقد تجاوزت المرحلة التي أنكسر فيها”.
من السهل أن تقول لانسان إعشق جروحك وتصالح معها، لأنها أوسمة نبل مضيئة على نهاية معركة مشرفة ولا يمكن ان تدخل مع ذئب في معركة بلا آثار مخالبه على جسدك،، لأن الجروح العميقة تكون غائرة أحياناً في الأعماق وتخرج كرؤوس الافاعي من الرمل لكن الهروب منها ليس حلاً لأنه يضخم الجرح الذي يشكل ” مداراً” خاصاً به خارج العقل وخارج السيطرة ولا يتوقف إلا بتفكيك التجربة وتأملها وهو ما أثبته عالم النفس بيير داكو من تلاميذ كارل يونغ وهو السبب الذي يجعل بعض الناس يقول انه” عالق” في تجربة ولا يستطيع الخروج منها أو فكرة ثابتة ولا يعرف ان السبب ان تلك التجربة شكلت مدارا ثابتا يتحرك باستقلالية تامة خارج العقل كما يدور الالكترون حول الذرة لذلك لا يمكن وقفها او علاجها بالعقل الجريح نفسه بلا ثقافة مضادة أو مراجعة عميقة أو تفكيك بنية التجربة على ضوء معرفة جديدة .
في الجنوب العراقي يقال عن الشخص العالق في تجربة إنه” ملزوم”، أي ممسوك من شياطين ويُربط على شباك ضريح إمام لكي يفكه من الأسر، قبل كشوفات علم النفس الذي اكتشف ان الشيطان هو الواقع نفسه ولا يشفى المصاب الملزوم مهما كان السبب اذا كان يعيش في المكان نفسه الذي أنتج” الشيطان التخيلي” لأنه سينتج كثيراً من” الشياطين”.
الجروح النفسية لا تعالج بالحكمة والعقل ولا حتى في الطب في بعض الحالات بل بالحنان والدفء والحميمية وحوار هادئ مع النفس لانها لا تخضع للمنطق بل للعاطفة.
عندما يتجاوز الانسان مرحلة الانكسار، الانكسار الداخلي وهو ما قصده بورخيس بلغته الرمزية العميقة، يتلاشى شعور الخطر، والخوف من الخسارة، لكن ليس سهلاً تجاوز مرحلة الانكسار، ومن الصعب جداً بلوغها،
وهي ليست خياراً أو قراراً شخصياً ولكنها تراكم تجارب ووعي هذه التجارب،
ومصالحة مع الذات وقبول الحياة كهدية،
وتحمل الخسارة كقدر أو مصادفة لكن ليست نهاية العالم. مشكلتنا جميعا هي العناوين القاطعة الخاطئة للتجارب والعنوان الخاطئ سيحمل معه شبكة عواطف ومشاعر خاطئة.
غالباً ليست التجربة قاسية أو مؤلمة بل العنوان أو الرمز الكود الذي حفظت فيه ومثلا عندما يتعرض شخص ما للإساءة من أي نوع، فمن غير الصحيح حفظ التجربة تحت عنوان ضخم كجرح للكرامة لأن هذا سيفجر طاقة انفعالات سلبية بل العنوان الصحيح هو: ” الاستهتار” وعندها سيطفئ العقل كل شحنة سلبية لأن اللاوعي طفل بعمر أقل من ثلاث سنوات يصدق كل ما نفكر به ولا يفرق بين الحقيقة والخيال ولو تخيلت موقفاً مخيفاً أو خطراً ستشعر بالتوتر والاحمرار وارتفاع ضربات القلب والجسد يتهيأ لمعركة حقيقية كما في الواقع.
عندما نقرر ان هذا الفشل أو الخسارة أو الصدمة كانت كارثية ونهاية ، ستكون كارثية فعلاً وترافقنا دائماً وتقرر الخطوات التالية، لكن لو حفظت تحت عنوان فرصة أو خسارة مؤقته، لانتجت بداية جديدة، ستكون التجربة كسب رهان وبداية حياة وهو على الأرجح ما قصده بورخيس: تجاوز مرحلة الانكسار. العنوان الخاطئ ينتج مشاعر خاطئة.
أن يتداعى الانسان ويُهزم، أمر يحدث كل يوم، لكن ليس كل فشل هو هزيمة،
وليست كل هزيمة فشلاً وعلينا تجاوز العناوين الخاطئة. هناك فشل بطولي وهزيمة مشرفة عندما يدخل الانسان في صراع ضد قوى غادرة
وشريرة ويستهلك كل طاقته في الصراع ضدها، فيكون الفشل نصراً،
كما تكون الهزيمة فخراً،
لأن المعركة مستمرة ولم ترفع الراية البيضاء ومن لحظة دخول الانسان الصراع مع قوى غادرة،
فهو انتصار بطولي بصرف النظر عن النتيجة، شرف هذه المعارك في الغاية وليس في النتيجة فحسب.
هناك نصر بلا قيمة أخلاقية لأنه غدر وإحتيال وشر وخسة، وهناك فشل يختزن كل معاني الشرف والنصر الأخلاقي. الأمر يتوقف على” هدف” المعركة وغايتها، وليست النتيجة. النصر الحقيقي في كل معارك الحياة يرتبط بالنبالة وليس بالنذالة لأن هذه هزيمة داخلية أبدية وشر مستحم بنفسه كما تستحم أفعى بالسم تحت الشمس.
كما تخلق المحبة والتضامن والمعاناة والمحن هوية مشتركة بين أشخاص وجماعات من أمكنة بعيدة ـــ كما في مشاهدة مباراة كرة القدم من قارات متباعدة في لحظة واحدة ـــ كذلك تخلق الكراهية وعقلية الحقد والنميمة والعطب هوية مشتركة بين أشخاص بلا روابط انسانية عميقة : كما أن الجمال والخير والنبل رابطة بين البشر كذلك القبح والدونية والصفاقة رابطة متينة بين صنف مريض من البشر يعتقد ان ما يفكر وما يشعر به هو كل ما يفكر فيه ويشعر الناس في كل مكان.
في رواية ” الشيخ والبحر” لأرنست همنغواي يقضي الصياد سانتياغو أياماً في الصراع مع سمكة ضخمة، لا هي تستسلم للصياد وتقاوم ولا هو ينهار،
وعندما يسحبها الى الشاطئ، يجدها تحولت الى هيكل عظمي بعد أن أكلتها أسماك القرش وانهكها الصراع،
ورغم لغة همنغواي المشفرة فلم تهزم السمكة رغم موتها ولم يهُزم الصياد لأنه استهلك طاقته في الصراع وهو ما عناه همنغواي بــــ” الفشل البطولي”،
أو كما قال عبارته الشهيرة:
” يمكن سحق الانسان لكن هزيمته مستحيلة”
لكن ليس كل انسان وهناك من يمكن أن يُسحق أخلاقياً وجسدياً لان المصدات الداخلية منهارة او لا وجود لها والابواب مفتوحة ولأنه مفرغ من الآدمية ومحشو بالهشاشة ومشروع اذلال لان قيمته ليست في داخله بل مستمدة من الاطراء والمديح كشحاذ طريق او مدمن مخدرات في انتظار جرعة مسكنة لكن المأزق عميق وراسخ.
ليست الحياة هي اللون الأبيض والأسود بل هناك مساحات رمادية هائلة في الاسود كما في الأبيض والحدود القاطعة للالوان خاصية العقل الثنائي،
سجين اقفاص وأسير قناعات صعدها الى درجة اليقين.
كتبت روزا ليكسمبورغ المناضلة والمفكرة الالمانية رسالة من زنزانتها الى حبيبها كارل ليبخنت من مؤسسي الحزب الشيوعي الالماني، وكلاهما أغتيلا ، تقول فرحةً:
” كارل، وجدت العشب في الصباح ينمو تحت جدران الزنزانة، يا للفرح الحياة مستمرة”.
كتب الشاعر سعدي يوسف يقول عندما سُئل الشاعر الاسباني غارسيا لوركا قبل اعدامه في الحرب الاهلية الاسبانية في ثلاثينات القرن الماضي:
” مع مَن أنت ؟ أجاب لوركا : مع الخاســـر”.
ملامح وجه خاسر معركة مشرفة تشع بالنضج والوجع والشحوب البري الجميل كحقل سنابل تحت شمس الظهيرة وبالطمأنينة الآسرة كقديس متشرد لأن في الخسارة كرامة لا تتوفر في نصر أو ربح مبتذل وعابر.
ــــــــــــــ تزوج بورخيس سكرتيرته البروفسورة والاستاذة الجامعية في الادب ماريا كدوما اليابانية الأصل وريثة التربية والتقاليد اليابانية في الوفاء والاخلاص النفسي والجسدي للذات والاخر التي تولت لعشرين سنة كل تفاصيله من غسل الملابس وشد رباط الحذاء وتذاكر السفر والقراءة له والطبخ وتعرف عليها يوم كانت طفلة خلال زياراته الى والدها والفارق بينهما أكثر من أربعين سنة لكنه أراد تكريمها قبل الموت وفاء لاخلاصها الاستثنائي فسجل كل ثروته في وصية لها مما أغضب العائلة فأضاف فقرة للوصية أشعلت النار:” يسمح لهم بالدفن في مقبرة العائلة”.