في غزّة……بقلم سليمان أحمد العوجي

في غزّة…
يُشرِقُ الجوعُ مِن تحتِ الأنقاض،
كَأنّ الشَّمسَ ماتتْ هناك،
ونابتْ عنها رغيفٌ مُتفحِّم،
يَرتجفُ على رَفِّ الذكرى.
المدينةُ ليستْ مدينة،
بل قَفصُ عصفورٍ بلا عصفور،
مُعلَّقٍ في هواءٍ اختنق.
الحليبُ يَتخثَّرُ في ذاكرةِ الأطفالِ
قبل أن يَلمسَ الشفاه،
والثَّديُ يَقطرُ صمتًا مالحًا،
كأنّ الأمهاتِ أضأنَ شُموعَهُنّ
مِن نارٍ لا تُطفأ.
الخبز؟
شائعةٌ تَتداولُها الجدران،
نكتةٌ سوداءُ ضَحك منها الموت،
واختنقتْ بها الأمعاء.
الأطفال…
لا يَزحفون نحو الضوء،
بل نحو ظلِّه المُعلّقِ
على خيطِ دخان،
يَحسبونه خيطَ الحلوى.
عُيونُهم كُؤوسٌ فارغة،
تُجرِّبُ كلَّ يومٍ طَعمَ الهواء،
وتفشل.
البيوت…
تُخزّنُ الريحَ بدلَ القمح،
والأبوابُ تفتحُ فمَها لتصرخ،
لكنَّ المفصّلاتِ تأكلُ الصوت.
مَن علَّمهم أن يَفرشوا النارَ سَجّادةً،
ويُصلّوا عليها لجُثّةِ قمرٍ؟
مَن قال لهم إنّ الوجعَ فنّ،
وأنّ كلَّ صرخةٍ
يمكن أن تُطرَّز وتُعلَّق
بجوارِ صورةِ الغائب؟
في غزّة،
الدَّمُ لا يَسيل…
بل يَتسلّقُ الجدرانَ ككَرمةٍ
تَحلُمُ بعنقودِ حياة.
والليل؟
ليس ستارًا،
بل فمٌ كبير
يَلتهمُ الوقت،
ثمَّ يُبصقهُ عظامًا صغيرة
تُحاولُ أن تنام.
والحصار؟
ليس سياجًا…
بل ساعةٌ مُعطّلة،
تُعيدُ الدقيقةَ ذاتها ألفَ مرّة،
حتى يَصيرَ الزمنُ قَيدًا.
هواءٌ يَمرّ من الغربال،
ودواءٌ يُهجّي اسمَهُ الطفل،
ولا يَصله.
جدرانٌ من وَهم،
تُبنى من لِجانٍ ومؤتمراتٍ
لا تَعرفُ أنَّ الجوعَ
لا يَنتظرُ جَدوَلَ الأعمال.
والعالم؟
مرآةٌ مَقلوبة،
تَرى الدخانَ وتَقول: ضوء.
يَسمعون صوتَ الرُّكام
كَأنَّه موسيقى خَلفيّة
لفيلمٍ وثائقيّ.
يَعدّون الجثثَ بالأرقام،
ثم يُغلقون التَّقرير
على فنجانِ قهوة.
اللغةُ نَفسها مُحاصَرة،
تخافُ أن تقول “غزّة”،
فتُتّهمَ بالانحيازِ للحقيقة.
الصَّمتُ الدولي؟
سماءٌ بلا آذان،
إلهٌ يُغلقُ عينيه
كي لا تُخدشَ قَداستُه
بِمنظرِ الأطفال
وهم يَعدّون أصابعَهم ليأكلوها.
صَلواتٌ تُرفَع بلا نِيّة،
وسفراءُ يَزرعونَ ابتساماتِهم
في حَدائقِ الطُّغاة.
أمّا الآن…
فالسماءُ نفسها
تُوقّعُ على بياناتِ الإدانة،
تُوقّعُها بماءِ النسيان،
ثمّ تُمطرُ على الخرابِ
نَشيدًا مُلتبسًا،
كأنَّ الملائكةَ ذاتها
تَرتدي أقنعةَ الأُممِ المتحدة.
الزمن؟
حربٌ بيضاءُ
تَمشِي على عُكّازِ الأبد،
تَعبُرُ فوقَ عتباتِ البيوتِ المنكوبة
ولا تَخلعُ نِعالَها.
القداسة؟
وَهمٌ يُباعُ
في زُجاجاتِ ماءٍ مُقدّس
كَتبوا عليه: “اشربْ لِتنسى”.
والله؟
رُبّما ماتَ من الحزن،
أو رُبّما يُعيدُ خَلقَ الأكوانِ
دون أن يَنتبهَ لهذا الكوكبِ الصغير
الذي يُشبهُ شظيّةً…
عَلقت في صدره.