د. فيروز الولي تكتب :دماء في سلال الهوية

حين تصبح الطائفة مشروع حرب… لا مشروع حياة
في البلاد التي تُفرّخ الطوائف كما تُفرّخ الجراد، لم تعد الهُوية سؤالًا فلسفيًا بل مشروعًا دمويًا مزمنًا. هنا، لا تكتمل الطائفة إلا بثلاثة: قائد ملهم، عدو دائم، ومظلومية مقدسة. أمّا الدولة؟ فهي مجرد مسرح هشّ تُدار فيه مسابقة: من الأكثر جدارة بانتزاع السلة من يد الآخر؟
وسلّتنا هنا ليست رغيف خبز أو حصة وزارية فحسب، بل قد تكون سلّة دماء تُراق باسم الطائفة، وتُرسل كرسالة للجار “المختلف”.
“التمكين” كذبة كبرى
يُطالعنا الجميع بشعارات “التمكين”، كأننا شعوب في طريقها للتحرّر. لكن الحقيقة أن “التمكين” الطائفي ما هو إلا بوابة خلفية للتمكّن من رقاب الآخرين. الطائفة عند بعض أهلها لم تعد أداة صمود… بل سلاح انتقام مؤجل.
في هذا السوق، كل من يخالفك في المذهب هو مشروع خائن، مشروع مرتد، مشروع مذبوح بفتوى لاحقة. الجميع يشتري ويبيع في بازار التخوين، ولا أحد يسأل: وماذا بعد؟
الطوائف الكبرى: أوطان مختنقة بهويات متضخّمة
الصراع ليس بين حق وباطل، بل بين فريقين يتنافسان على لقب “الضحية الأكفأ للبطش بالخصم”. السنة والشيعة – لا كلهم، بل نُخَبهم المسلّحة بالشعارات – يتبادلون أدوار الضحية والجلّاد في مشهد لا ينتهي. لا تعليم، لا اقتصاد، لا نظام مواطنة… بل فقط سباق لامتلاك السلة حتى لو كانت فارغة إلا من الرماد.
الناس يكبّرون قبل الذبح، يلعنون الطائفية بعد التفجير، ثم يعودون ليصوّتوا للزعيم الذي وعدهم أن “يحميهم من الآخر”… بينما ينهبهم باسم الحماية.
الطوائف الصامتة: من لا يقتلون… يعيشون
في أقصى الهامش، بعيدًا عن المهرجانات والمواكب والرايات والميليشيات، تعيش جماعات مثل الدروز، المكارمة، والبهائيين. هؤلاء لا يظهرون في “غزوات التليغرام”، ولا يهددون بـ”القصاص المقدّس”، ولا يطالبون بوزارة ولو على جثث الآخرين.
هم ببساطة… قرروا أن يعيشوا.
لا ينتظرون المهدي، لا يركضون خلف ولاية فقيه، لا يصدّرون ثورات، ولا يستوردون فتاوى. ومع ذلك، تجدهم أكثر استقرارًا من عواصم تملك الصواريخ لكن تعجز عن إصلاح ماسورة مياه.
الطائفة التي لا تنتج خبزًا… تنتج قبورًا
البهائيون، رغم الإقصاء والتهميش، بنوا حياتهم حول السلام، لا الاستعلاء. المكارمة أقاموا في صمت شبكات اجتماعية أقوى من كل أحزاب “الممانعة المقدسة”. الدروز عاشوا في الظل، فنجوا من حرائق الطموح الزائف.
في المقابل، الطوائف التي أشبعتنا شعارات عن “الكرامة” و”التحرير” باعتنا في سوق الدم والخراب، ثم عادت لتقنعنا أننا محظوظون لأننا ما زلنا أحياء تحت رايتها.
النهاية… لا بُدّ من سؤال
لماذا نختار طائفة تقودنا إلى الجحيم فقط لأنها “منا”، ونرفض جماعة تنتج الأمان فقط لأنها “ليست منا”؟
لماذا نفضّل زعيمًا مفلسًا يطعمنا شعارات على مجتمع صامت يبني مدارس ومستشفيات؟
لماذا نؤمن أن القصف يمكن أن يجلب العدالة، وأن الذبح يمكن أن يصنع هوية؟
الجواب مخيف وبسيط:
لأننا شعوب لم تتعلّم بعد أن الطائفة، حين تصبح أهم من الإنسان، تبتلع الاثنين معًا.