لم أكن ابن مدينة…….بقلم بسام المسعودي

لم أكن ابن مدينة…
كنت قرويًا بالفطرة.
أعرف الأرض من رائحتها قبل أن ألمسها،
وأفرّق بين نباح الكلاب في القرى
وطنين السيارات في الشوارع.
في صغري، كانت الطرق ترابية،
وخطاي لا تحتاج إلى خرائط.
كل الدروب تؤدي إلى جدّتي،
إلى صحن اللبن، إلى ظلّ التينة،
إلى قلب لا يضيق إذا أخطأت.
ثم كبرت،
ودفعتني الحياة نحو المدينة،
كمن يُنتزع من جلده ليرتدي ثوبًا لا يشبهه.
دخلت المدينة مثل لصّ يتسلل إلى متحف.
كل شيء فيها يلمع أكثر مما يحتمل البصر،
وكل شيء يسير بسرعة لا تتيح لي الفرار من نفسي.
الأسفلت كان صلبًا لدرجة أنه كسر خطواتي.
والأرصفة لم تتسع لذهولي.
نظرات المارة كانت حادة،
كأنهم يعرفون أنني دخيل.
كنت أدعو الرب كثيرًا.
لا كما يُدعى في الخطب،
بل كما يُدعى من انقطعت به السبل.
في الفجر،
وفي المساءات التي لا تنتهي،
عند تباب التيه
التي لا تُطل على شيء.
عرفتني شتاءات المدن أكثر مما عرفتني دكة جدتي .
أثمل بالمناجاة،
أرتجف بين يدي الله،
وأخبئ في قلبي قصائد عن الغربة،
لا أجرؤ على قراءتها لأحد.
لم أكن شجاعًا…
لا حين ارتجف قلبي أمام الحب،
ولا حين فشلت في حماية أول نظرة وقعت في قلبي.
الحبيبات اللواتي مررن في حياتي
لم يكنّ مرورًا عابرًا،
بل ريحًا كشفت هشاشتي.
بعضهن أردن تزكيتي على قارعة صدورهن،
لكنني كنت دومًا قاصرًا عن البوح،
غارقًا في خجلي القديم،
ذلك الذي تربيت عليه في بيت لا يقول “أحبك”،
بل يزرعها في طبق الطعام،
أو في كوب الماء البارد.
وفي ليالٍ كثيرة،
كنت أشتاق لضياء المصباح الوحيد في دارنا،
حين كانت أمي تنام مبكرًا،
وأسمع صوت تنفسها من الغرفة المجاورة،
ذلك الصوت،
كان أوضح من كل الأجراس التي تملأ المدينة.
أنا قرويٌّ بالفطرة،
أحنّ إلى الطين،
إلى رائحة المواشي عند الفجر،
إلى الندى على أوراق النعناع،
إلى “صباح الخير” التي لا تُقال مجاملة،
بل تعني: “هل نمتَ دافئًا؟”
أما هنا،
فالعزلة فاخرة،
والحنين معبأ في فناجين قهوة،
والحب يُقاس بعدد الرسائل…
لا بعدد المرات التي انتظرنا فيها دون أن نغضب.
كلما تأملت وجهي في مرآة المدينة،
شعرت أنني فقدت ظلي القديم،
وأن قلبي،
رغم كل ما عَبَر،
ما زال يحنّ إلى التراب.