
في عالم السياسة، هناك وجوه تختفي خلف الضجيج، وتفصح عن مآربها فقط في لحظات الحسم التاريخية. أحد هؤلاء كان بنيامين ديزرائيلي، رئيس الوزراء البريطاني، الذي لم يكن مجرد سياسي تقليدي، بل مهندسًا لمرحلة مفصلية من التاريخ الاستعماري البريطاني، خاصة في مصر.
طفولة غريبة ونشأة مضطربة
وُلد ديزرائيلي عام 1804 لأب يُدعى إسحاق، من أصل إيطالي يهودي، اختار لاحقًا التحول إلى الكنيسة الأنجليكانية طمعًا في اندماج اجتماعي يفتح له ولأبنائه أبواب الطبقة الراقية البريطانية. نشأ بنيامين وسط محاولات فاشلة للاندماج، مما ولّد لديه شخصية متمردة، ترتدي الأزياء الغريبة وتطيل الشعر، وتبحث عن التأثير عبر الحكايات والكتابة والمظهر الاستعراضي.
رحلة شرقية تشكل عقلية استعمارية
في عام 1830، سافر ديزرائيلي إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر، وهناك تُوفي زوج شقيقته، وعاد إلى إنجلترا بمفرده، حاملًا معه انطباعات عميقة عن أهمية الشرق الجيوسياسية، وبدأ في تصوير نفسه كخبير في شؤون الإمبراطورية العثمانية وديانات الشرق، وهي السمات التي شكلت لاحقًا توجهاته الاستعمارية.
سياسي بطموحات إمبراطورية
دخل البرلمان البريطاني عام 1837، متحديًا معارضة بسبب أصله اليهودي، ثم تنقّل بين المناصب الوزارية حتى أصبح رئيسًا للوزراء عام 1867 ثم مرة أخرى عام 1874. دعمته الملكة فيكتوريا، التي منحها لقب “إمبراطورة الهند”، وكان بذلك أول من صاغ مفهوم الاستعمار الحديث القائم على السيطرة الاقتصادية والسياسية دون الحاجة إلى الحرب المباشرة.
قصة قناة السويس: الأموال قبل البنادق
في عام 1858، اشتركت مصر بنسبة 21٪ في أسهم شركة قناة السويس، واضطرت لاحقًا لشراء النسبة غير المكتتبة لترفع حصتها إلى 44٪، بعدما انسحبت دول أجنبية كإنجلترا وروسيا وأمريكا.
لكن ذلك الوضع لم يُرضِ ديزرائيلي. فبعد أن غرق الخديوي إسماعيل في الديون الذى أوقعه فيها ديليسبس وأصدقاءه من رجال البنوك، جاء العرض البريطاني بشراء الأسهم المصرية. وفي عام 1875، تحرك دزرائيلي بسرية مع صديقه ديليسبس، واقترض من صديقه الثري ليونيل روتشيلد مبلغ أربعة ملايين جنيه إسترليني لشراء الحصة المصرية في شركة قناة السويس. تمت الصفقة دون علم البرلمان البريطاني، وأثارت جدلًا واسعًا، لكن دعم الملكة فيكتوريا لديزرائيلي كان حاسمًا، إذ قال لها: “الموضوع قد حُل يا مولاتي، فهي لك الآن… مصر وقناتها.”
منذ تلك الصفقة وحتى عام 1956، احتفظت بريطانيا بنسبة 44٪ من أسهم قناة السويس، لتصبح المسار الحيوي للإمبراطورية إلى الهند والشرق. ولذلك كانت بريطانيا هى الحكومة الوحيدة فى العالم المساهمة فى شركة قناة السويس.
التمهيد للاحتلال: الاقتصاد قبل السلاح
من خلال تعميق الأزمة المالية المصرية بالتعاون مع شخصيات مثل هنري أوبنهايم، عمل ديزرائيلي على وضع مصر تحت وصاية مالية. خطط لتثبيت نظام مصري مطيع (الخديوى توفيق)، وسلطان عثماني متعاون (بعد خلع الخديوى اسماعيل)، تمهيدًا لدخول بريطانيا العسكري، لكن وفاته عام 1881 سبق تنفيذ الخطة بعام واحد، حيث بدأت بريطانيا احتلالها الرسمي لمصر عام 1882.
بصماته في التاريخ
قال اللورد كيرزون، وزير الخارجية البريطاني عام 1909:
“إن قناة السويس هي العامل الحاسم لأي عمل أو تواجد بريطاني خارج حدودنا.”
وفي الحقيقة، ديزرائيلي لم يشترِ مصر بالسلاح، بل اشتراها بعقلية مصرفية باردة تخطط للمستقبل على هيئة عقود ومؤسسات مالية. كانت الإمبراطورية البريطانية آنذاك تبني نفوذها عبر البنوك وليس فقط الأساطيل.
خاتمة: حين تتكرر الوقائع بثياب جديدة
ما أشبه اليوم بالبارحة، فالمعارك لم تعد تُحسم في الميادين فقط، بل في صفقات مالية، وقروض، وامتيازات اقتصادية. قصة ديزرائيلي ليست مجرد فصل في كتاب التاريخ، بل تحذير من تكرار النمط بأدوات جديدة وأسماء مختلفة.