السفير أحمد مجاهد يكتب :إرث الرئيس جمال عبد الناصر: محاولة تقييم موضوعية (٢-٥)

استند هيكل النظام السياسى الذى أسسه الرئيس عبد الناصر إلى طبقة حكم أرستقراطية عسكرية-أمنية، وحكومة تنفيذ تكنوقراطية مدنية-عسكرية، وبيروقراطية إدارة مدنية ذات جذور وهياكل وثقافة سلطوية عريقة (فرعونية ومملوكية)، تشبعت تدريجياً بالثقافة وأساليب العمل العسكرية.
إلى جانب ذلك، وظَّف الحُكم الثورى-العسكرى الجديد المؤسسات الإعلامية والدينية لأغراض الشرعنة والدعاية والضبط الاجتماعى، ونجح فى ذلك نجاحا كبيرا (على الاقل حتى عام ١٩٦٧). كما طوّر توليفة إيديولوجية جذابة من القومية العربية والمركزية المصرية والاشتراكية والإسلام ومناهضة الاستعمار. وتم توظيف هذه الإيديولوجيا فى صورة خطاب وسياسات شعبوية لاقت شعببية واسعة ليس فقط على الصعيد المصرى ولكن أيضا فى الدول العربية وتلك المتحررة من الاستعمار.
من جانب آخر، استبدل الرئيس عبد الناصر بنخبة الحكم (أى أصحاب المناصب الرسمية العليا فى الدولة والنظام السياسى) السياسية والحزبية القديمة نخبة حكم عسكرية شابة ونشطة قائمة على مبدأى الولاء الشخصى والطاعة العسكرية، والتى اختلط فيها الكفء بضعيف الكفاءة. أطلق الرئيس جمال يد هذه النخبة فى المناصب القيادية فى الحُكم والحكومة، وفى المستويات الثانية والثالثة فى قطاعات الدولة والإدارة المحلية، وفى مختلف أنشطة المجتمع (رياضية، وصحفية، وثقافية…).
وفضلا عن إنشاء جهاز للحشد والتمثيل السياسى والسيطرة على الصعيد الوطنى لا سيما من خلال العائلات الكبيرة التقليدية فى الأرياف والصعيد (هيئة التحرير فالاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى)، أنشأ الرئيس جمال عبد الناصر التنظيم الطليعى السرى من الشباب الثورى -كان عدد كبير منهم من الأكفاء المتعلمين تعليما رفيعا فى الخارج وفى مصر، وكلهم من الطموحين، وبعضهم من الانتهازيين- وذلك لتثوير الأداء وحماية الثورة وخدمة أهدافها، وموازنة نفوذ بعض المؤسسات الأخرى، وتقديم المقترحات والنصائح، وإعداد تقديرات الموقف المهنية، وأيضا الإبلاغ عن “أعداء الثورة”.
مع الوقت، تحوَّل معظم أعضاء هذه النخبة وأتباعها -من ذوى الكفاءة والاستحقاق، أو من معدوميها- إلى “طبقة جديدة عُليا” من البيروقراطيين والتكنوقراط المفيدين المستفيدين، الذين حققوا مكتسبات وكوَّنوا تدريجيا كتلة محافظة نافذة مضادة لمكتسبات لثورة ٢٣ يوليو.
أيضا، اعتمد الرئيس عبد الناصر الإدارة والحلول البيروقراطية منهجاً عاماً للحكم بدلاً من السياسة، وتبنى أسلوب إصدار القرارات الفوقية واجبة الطاعة، بدلاً من تثوير الجماهير وإشراك الشعب فى الثورة وتنفيذ ورقابة ومراجعة برنامج العمل الثورى. وسرعان ما تحولت الثورة إلى “ثورة بيروقراطية” تحكمها وتحجمها القواعد البيروقراطية السلطوية المحافظة بدلا من القيم الثورية التحررية.
وشكلت النواة الصلبة من النخبة العسكرية-الأمنية “شبكة الحكم الحقيقية” ذات الامتدادات والمصالح الرسمية وغير الرسمية، الرأسية والأفقية، التى رأت بحكم واجبها الوطنى وامتلاكها زمام القرار والسلاح والسوابق التاريخية أنها الأكثر وطنية وكفاءة، ورأت فى نفسها وحدها الأحقية فى الحُكم، وأدارت شؤون البلاد الاستراتيجية، ووسعت مساحة اختصاصاتها ونفوذها.
فى الوقت نفسه، طبّق الرئيس عبد الناصر فلسفة “الكوربوراتية” فى الحكم، أى تنظيم تمثيل قطاعات المجتمع من خلال هيئات تتحكم فيها السلطة، وفرض هيراركية وتقسيم تكون فيها الدولة والنظام السياسى السلطوى-البيروقراطى قبل المجتمع أو فوقه أو فى مواجهته، مع هيمنة النظام السياسى على الدولة وعلى مختلف قوى وأنشطة المجتمع، وإخضاع الطبقات والفئات لتوجه الزعيم، وإدماج الجميع تحت مظلة الدولة فى إطار الخط السياسى للحُكم (تحالف قوى الشعب العامل)، وعدم السماح لأى فرد أو جهة بالعمل المستقل خارج هذا الإطار او بالاختلاف معه، وإلا كان مصيره المعتقلات او المنفى أو الفصل التعسفى أو غيرها من العقوبات (غير الدموية فى كل الأحوال، وغير الأبدية فى معظمها).
ولعل التوجه الثورى التحررى لنظام الحكم الناصرى وتعرضه للمحاولات الدولية والإقليمية الحثيثة لتحجيمه وإعادة السيطرة عليه كان سببا فى اتخاذ شكل الحكم ذلك الطابع الأمنى المحكم الإغلاق؛ هذا فضلا عن قلة الخبرة السابقة، وانعدام الثقة فى مؤسسات الحكم والبيروقراطية فى نظام حكم ما قبل ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
كما تطور التداخل بسرعة بين مفهومى الدولة والنظام السياسى. ونشأ الخلط بين الدولة ككيان قانونى تاريخى راسخ يضم شعباً وحكومة وسيادة داخل حدود جغرافية، وهى عناصر من طبيعتها الثبات النسبى، وبين النظام السياسى كأشخاص وقواعد وقيم وعلاقات للحكم والسياسة، وهى أمور من طبيعتها التغيير.
#٢٣يوليو
#عبدالناصر