رؤي ومقالات

السفير أحمد مجاهد يكتب :إرث الرئيس جمال عبد الناصر (٣-٥)

إذا كانت الدبلوماسية امتداداً للحرب ولكن بأدوات أخرى، فإن السياسة الخارجية هى امتداد للسياسة الداخلية وتفاعلاتها ولكن على قطعة شطرنج أخرى، عالمية. كما إن نتائج هذه السياسة الخارجية تنعكس بدورها على السياسة الداخلية للدولة.
تبنى الرئيس جمال عبد الناصر سياسة خارجية ثورية نشطة، تحررية مناهضة للاستعمار وتقدمية، عروبية وأفريقية وعالم-ثالثية. واستخدم كل الوسائل والأدوات الممكنة فى تنفيذ هذه السياسة، عن طريق الدبلوماسية فائفة النشاط والكفاءة، والعمل السرى الحثيث على نطاق واسع، والدعاية الإيديولوجية باستخدام إذاعات صوت العرب والقرآن الكريم والبرنامج العام والإذاعات الموجهة، وإطلاق العنان للقوة الناعمة المصرية الكبرى، الجذابة والمؤثرة فى ذلك الوقت، كما أحسن فى البداية استغلال مساحة المناورة التى أتاحها نظام القطبية الثنائية.
ونتيجة لانتصار مصر السياسى التاريخى على العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦ (بتدخل سوفييتى وأمريكى) رغم الهزيمة العسكرية، وخطوة الوحدة المصرية-السورية عام ١٩٥٨، تحول الرئيس عبد الناصر إلى زعيم كاريزمى، حامل لراية مناهضة الاستعمار فى العالم، ولأحلام الجماهير العربية فى الوحدة والشعوب الأفريقية فى التحرر الوطنى.
لكن الشرعية الكاريزمية ضخمت ثقة الزعيم في نفسه وفى قدراته الذاتية، وجعلته أسيراً للشعبوية ولأحلام الجماهير ولصورته فى أعينها، غافلا عن أثر القيود الواقعية على الصعيد الخارجى. كما أطلقت هذه الكاريزما يد الرئيس عبد الناصر فى السياسة الخارجية دون مراجعة أو رقابة أو محاسبة، معتمدا على مؤسسة الخارجية ومؤسسات العمل السرى فى تصدير الثورة ودعم دور مصر كدولة قائدة للمنطقة.
فى الوقت نفسه، اقتنعت القوى الغربية الكبرى بعد العدوان الثلاثى بضرورة تحجيم الدور والرمز الذى يمثله عبد الناصر، فقامت بالتحريك الشامل لكل أدواتها الدولية والإقليمية لحصار مصر وتحجيم دورها ونفوذها الإقليمى. من جانب آخر، على الصعيد الداخلى المصرى، غطى الانتصار السياسى على الهزيمة العسكرية ولم تتم مراجعة الأداء، وهو ما ترتب عليه بعد ١١ سنة التعرض -بكل أسف- لنفس الخطة وتكرار نفس الأخطاء.
اتسمت السياسة الخارجية للرئيس عبد الناصر بالطموح الثورى، والنشاط التكتيكى الملحوظ، والاندفاع الاستراتيجى، مع اتباع استراتيجية “حافة الهاوية” كأسلوب تفاوضى فى العديد من المواقف. وترتب على ذلك السلوك النشط -الذى فاق قدرات مصر أحيانا كثيرة وضغط على قرارها ومواردها- التورط فى العديد من الأخطاء ذات التداعيات السلبية على مصر. فبعد جرح الانفصال السورى عام ١٩٦١، استمر الرئيس عبد الناصر فى مساندة حركات التحرر الوطنى فى أفريقيا، وحرص على تعزيز الدور الإقليمى المصرى القائد والتقدمى (الذى ما زالت بقايا آثاره محسوسة ومؤثرة حتى اليوم فى أفريقيا)، كما واصل الانخراط فى “الحرب الباردة العربية” ضد الدول التى أُطلِق عليها فى حينه القوى “الرجعية”، لا سيما فى حرب اليمن منذ ١٩٦٣، التى تحولت إلى “حرب فيتنام مصر”.
فى الوقت نفسه، قاد تركيز الرئيس عبد الناصر على التحرك الخارجى إلى تراجع سيطرته نسبيا على الساحة الداخلية مع تصاعد دور المشير عامر. كما أدى اعتماد الرئيس على الكاريزما الشخصية فى قراراته وسلوكه الخارجى إلى إضعاف دور المؤسسات المختصة فى عملية صنع القرار الخارجى، وتحولها من مؤسسات صنع سياسة ثورية إلى آلة تنفيذ بيروقراطية ضخمة ونشطة، ولكن روتينية، محدودة الخيال، ومنعدمة الاستراتيجية الكبرى فى انتظار تعليمات الزعيم.
امتلك الرئيس عبد الناصر فى الوقت نفسه عدة أجهزة رقابة وجمع معلومات تنافست جميعها فى إثبات الولاء للقائد من خلال إبراز نجاحاتها فى التخلص من “أعداء الثورة” داخل جهاز الدولة، ومنها مؤسسات السياسة الخارجية. وقد نجم عن هذه السياسة وعن تزايد الاعتماد على عناصر الولاء والرقابة، سيادة أجواء الخوف وتراجع الروح المعنوية. وبالتالى اكتفى موظفو مؤسسات السياسة الخارجية فى أحيان كثيرة بالعمل الروتينى الجاد ولكن الخالى من الروح والمبادرة، خشية ارتكاب الأخطاء أو لفت الأنظار والتعرض لسيف التقارير الكيدية والإقصاء الوظيفى.
أثر كل ذلك على استمرارية النجاحات والإنجازات الثورية فى السياسة الخارجية، وصولاً إلى حرب ١٩٦٧. فقد عرّت “نكسة” ٥ يونيو المذهلة عيوب ثورة ٢٣ يوليو كافةً ومرةً واحدة وبشكل مكثف ومجسد، حيث ظهر جلياً أوجه القصور وخطأ الرؤية، وجسامة الأخطاء فى الحسابات والتقديرات والقرارات، وسهولة الاستدراج والانزلاق إلى الفخ التآمرى، والإدارة الكارثية للحرب وما قبلها. كما أظهرت “النكسة” مدى أزمة وحدة الحُكم، والآثار الفادحة للانفصام بين النخبتين العسكرية والسياسية.
لكن الهزيمة المريرة كشفت بالأساس الأثر العميق لغياب العمل السياسى الحقيقى، وجسامة أثر استبعاد المشاركة الشعبية من خلال الانتخابات الحرة، وسلبيات انعدام الرقابة والمحاسبة الشعبية والبرلمانية على السلطة التنفيذية، بالذات فيما يتعلق بقرارات السياسة الخارجية، لا سيما ذات الطابع الاستراتيجى الاستثنائى كقرارات الحرب.
ورغم تصميم الرئيس عبد الناصر على الصمود وإسراعه بالبدء الفورى فى إعادة بناء القوات المسلحة -هذه المرة على أسس علمية رشيدة والاعتماد على قيادات وعناصر من نوعية مختلفة-، إلا إنه فّوت عام ١٩٦٨ فرصة إصلاح الحُكم ومراجعة مسار الثورة، من خلال الاستجابة لمطالب متظاهرى الطلبة والعمال بالانفتاح السياسى، وكشف أسباب الهزيمة، ومعاقبة المسؤولين عنها.
لقد التزم الزعيم بمبدأ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، الذى بدا -للحق- أولوية منطقية وقتها لدى الكثير من المصريين.
ولكن -بكل أسف- لم تستطع إنجازات ثورة ٢٣ يوليو ولا الشرعية الكاريزمية للرئيس عبد الناصر تجنيب البلاد الهزيمة الأليمة ولا آثارها الجسيمة التى كشفت بجلاء سلبيات النظام السياسى، وأسهمت -إلى حد بعيد، ومع أسباب أخرى- فى نقض الكثير من إنجازات ٢٣ يوليو.
ففضلا عن الصدمة النفسية الهائلة العامة التى تعرض لها المصريون، أنهت “النكسة” المشروع الثورى المصرى على الصعيد الإقليمى. كما أعادت حرب يونيو ١٩٦٧ تشكيل الخريطة الإقليمية بشكل جذرى، وفرضت قدراً هائلاً من القيود طويلة الأمد والتكاليف الهائلة على السياستين الخارجية والداخلية وعلى الوضع الاقتصادى فى مصر. وهو وضع ما زال يُنتج آثاره السلبية وقيوده وضغوطه حتى الآن على صانعى القرار اللاحقين، وعلى مصر شعباً ودولة. وهى إكراهات وقيود فاقمتها -إحقاقا للحق- توجهات وسياسات وقرارات عهود لاحقة.
ورغم “النكسة”، كفلت عدة عوامل بقاء الرئيس عبد الناصر فى السلطة، أبرزها: إنجازات ثورة ٢٣ يوليو، والشرعية الكاريزمية للزعيم، وتركيبة الحُكم السلطوية-البيروقراطية المتوغلة، والصمود الشعبى الذى حَمَّل الزعيم مسؤولياته.
وبكل تناقضاته، نجح جوهر الحُكم الناصرى (الثورى، العسكرى-الأمنى، البيروقراطى، الداعم للعدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى ومناهضة الاستعمار) فى الاستمرار رغم الهزيمة الفادحة، والاحتلال الإسرائيلى لسيناء، وانتهاء المشروع الثورى الناصرى فعلياً؛ وأيضاً رغم غياب الزعيم نفسه بالوفاة، ثم تبنى الرئيس السادات لاحقا لتوجهات مختلفة عن توجهات الرئيس عبد الناصر.
#٢٣يوليو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى